ليس من شيمي في الكتابة أن أفرض على الجمهور اختيار مشاهدة فيلم أو الابتعاد عنه، فالفن مساحة حرة يكتشفها كل منا بطريقته. لكن هذه المرة، أجدني أكتب بروح المشاهدة العادية، متجردة من هويتي الصحفية، وأشعر أنني أمام واجب لا مفر منه. فيلم “ماء العين” للمخرجة التونسية مريم جعبر، الذي تألق في سماء أيام قرطاج السينمائية في دورتها الخامسة والثلاثين، ليس مجرد عمل سينمائي تشاهده، بل هو تجربة تعيد تشكيلك، تعصف بك لتدخلك في عوالم لم تعهدها.
لذا، إن قررت خوض غمار هذه الرحلة، فعليك أن تتسلح بتركيز يشبه السكينة، وقوة عاطفية تستحضر كل نبض داخلك. فالفيلم، رغم بساطة معناه الظاهرة، يحمل في أعماقه عذوبة معقدة تجعله السهل الممتنع. عليك أيضا أن تتعلم كيف تتنفس بعمق، لأنك قد تجد نفسك تختنق من ثقل المشاهد أو تتملكك نوبة هلع أمام ما تراه وتسمعه، وما يثيره فيك هذا العمل من زلازل فكرية ووجدانية.
ومع ذلك، أعدك بأنك لن تندم. فـ “ماء العين” هو مرآة ترى فيها نفسك والآخرين، حيث ينبض الفن بأبهى تجلياته، حسب رأيي.
ما ذنب الأمومة؟
حين نتأمل معنى الأمومة، تتبادر إلى أذهاننا صورة الحب المطلق والحنان اللامحدود والعطاء الذي لا ينضب. لكن في فيلم “ماء العين” للمخرجة مريم جعبر، تخلع الأمومة ثوب البساطة لتتجلى في أبهى صورها وأكثرها تعقيدًا، متجاوزة كل المفاهيم المألوفة لتفرض نفسها كقوة أسمى وأشد وطأة من الألم والمعاناة.
تجسد الممثلة صالحة نصراوي شخصية “عايشة” بتفان مذهل، يلامس أعماق الواقع. كل حركة، كل نظرة، وكل ارتعاشة يد تحكي رواية صامتة عن امرأة تتحمل عبء الفقد وأوجاع هروب أبنائها إلى طريق الموت. جرح يدها النازف باستمرار طوال الفيلم ليس مجرد رمز للمعاناة، بل هو مرآة لألم لا يندمل، وصبر أسطوري تتسلح به الأم في سعيها الوحيد: حماية أبنائها وضمان سلامتههم. هي الأم التي تمسح دموعها بصمت كي لا تُسمع، وتدفن أحزانها لتفسح المجال لحبها الذي يتخطى الحسابات والمقايضات.
إن تداخل الأحلام مع الواقع، عبر مشاهد الرؤى التي تراها الأم، يتيح للمخرجة مساحة للتعبير عن البُعد الأسطوري والخيالي الذي يتمازج مع القسوة الواقعية للحرب، في إشارة إلى أن الألم الإنساني يتجاوز حدود المكان والزمان.
“عايشة” تعيش حياة هادئة ومنعزلة مع زوجها وابنها الصغير في قرية نائية شمال تونس، لكن هذه السكينة تخفي بين طياتها جرحا مفتوحا يئن على وقع فقدان ابنيها الأكبرين، مهدي وأمين، اللذين التحقا بميدان داعش في سوريا. فجأة، يعود الابن مهدي محملا بأعباء الماضي، يرافقه غموض يزداد ثقله مع امرأة حامل مجهولة. ينهار سلام العائلة الهش، وتطفو على السطح ظلال من الظلام تُهدد باجتياح البيت والقرية بأكملها.
وسط تصاعد التوترات وتفكك الروابط، تُجبر الأم على مواجهة الحقائق المؤلمة حول تجارب ابنها في سوريا (نحب نفهم… أحكيلي شنيا مخبي عليا…”). إنها رحلة تُعيد صياغة يقينها بأمومتها، حين تصطدم بين غريزة الحب العميق والبحث المضني عن الحقيقة. يُجسد الفيلم، من خلال حكاية عايشة، أبعادًا متعددة للهوية الإنسانية والنسائية: الأمومة كقيد وكحرية، كضعف وكقوة مطلقة.
رهبة الماضي والحاضر
لطالما كنت على يقين بأن للعيون لغة خاصة، أستطيع من خلالها فك شيفرات النفوس وسبر أغوارها. لكن العيون الملونة، خاصة الزرقاء منها، كانت استثناء غريبا يُربكني، تصعب علي قراءتها وتُشعرني بالتيه. في فيلم “ماء العين”، تعود هذه الريبة لتُثقل إحساسي، خاصة مع تلك العيون الزرقاء التي تمتلكها زوجة الابن الغامضة، المنقبة، التي تُخفي ملامحها وتحجب حقيقتها خلف حجاب من الصمت والظلال. إنني أكره الغموض، أمقته حد الارتجاف، لأن الوضوح هو مرساة الطمأنينة، وهو ما تفتقده هذه الشخصية التي أثارت في قلبي توجسا عميقا، مشابها لما عبر عنه “آدم”، الطفل الصغير، حين قال: “ما نحبهاش تبقى… نخاف منها…”، وكأنه يعبر عن إحساسي ذاته، رهبة من حضورها الغامض الذي يهيمن على الشاشة ويبعث على عدم الراحة.
وعندما تُكشف الحقيقة أخيرا، تتعرى الأسرار أمام عيني الأم “عايشة”، ويرفع الابن الأكبر الحجاب الأسود عن أعين المشاهدين. يتبدد الغموض لنكتشف أنّ هذه المرأة وزوجها هما السبب الكامن وراء الفوضى التي اجتاحت العائلة والمنطقة بأكملها. إنها لحظة ساطعة في الفيلم، تُعيد ترتيب الأحداث بوقع صادم يعمّق إحساسنا بالكارثة المتربصة خلف كل ذلك الغموض.
تسافر بنا المخرجة في هذا السياق بين صور الماضي والحاضر، وما أبشع كلاهما. إنّ التناقض بين الأمس واليوم يُوجعنا كما يوجع “عايشة”. فالذكريات هنا بمثابة سياط تجلد بها الأم في كل لحظة، تؤكد لها أن ما خسرته كان أكبر من أن يعوض، وأن الحقيقة قد تأتي لتُحطم ما تبقى من أمل هشّ.
التركيز على المرأة المنقبة كشخصية محورية، مع غياب صوتها وملامحها، يُرسّخ الغموض ويجعلها رمزًا مُركبًا للقهر والانقياد، في حين تُعبّر الصورة والصمت عن حقيقة أكبر مما قد تُقدّمه الكلمات.
للوجع ألوان
يُظهر الفيلم براعة تقنية استثنائية في تجسيد الظلام الكامن في النفس البشرية والحرب والفكر المتطرف، حيث اعتمدت المخرجة على أسلوب بصري بالغ الأناقة ليكون وسيلتها الرئيسية للتعبير عن أبعاد القصة. ترتكز الصورة على ألوان يغلب عليها الأزرق والرمادي، مع لمسات غامضة من اللون البنفسجي الذي يظهر في الأزهار والأقمشة، وهو اختيار جمالي لا يخلو من الرمزية، إذ يضفي على العمل هالة من السحر والغموض ويعزز الطابع الشاعري للفاجعة.
لعبت الإضاءة دورا حاسما في تعميق الشعور بالقلق والتوتر، حيث تتأرجح بين الظلال الداكنة والضوء الخافت الذي يَشِي بالأحداث القادمة دون أن يكشفها صراحة. ترافق ذلك مع ديكورات أنيقة وبسيطة في آن واحد، تعكس عزلة القرية وحالة الركود التي تعيشها الشخصيات، وكأن المكان نفسه يُمثّل حالة نفسية مضطربة. أما اللقطات الطويلة، التي تُحيط بالشخصيات ببطء، فتُجسد حالة الاختناق واللايقين التي يعيشها الأفراد في مواجهة مصيرهم.
وباعتمادها على تقسيم السرد إلى ثلاثة فصول, تُعزز المخرجة البناء الدرامي بتدرج بصري وزمني يتناغم مع تعقيد الحبكة. تُمثّل المرحلة الثانية نقطة التحول عبر استحضار تقنيات الفلاش باك التي تُضيف طبقات من الغموض، وتكشف بالتدريج رموزا مبهمة تتطلب تأملا عميقا من المشاهد. هذا الأسلوب يخلق نوعا من التوتر البصري والفكري، ويعكس كيف أن الحقيقة لا تُكشف دفعة واحدة، بل تتبدد شيئا فشيئا لتترك أثرا أعمق.
في النهاية، لا يكتفي الفيلم بتقديم نقد موضوعي للواقع، بل يترك بصمته عبر قوة الصورة وصياغة فنية تجعل من التقنية لغةً تعبيرية تُسائل المُشاهد حول الظلم، العنف، والشر الذي ينخر المجتمع في العمق، مُحققًا بذلك تجربة سينمائية متكاملة تجمع بين الجماليات الفنية والرسائل الفكرية العميقة.
عبير العقربي