“والدك… على الأرجح”: عندما يتحول الصمت إلى لغة للمعاناة

You are currently viewing “والدك… على الأرجح”: عندما يتحول الصمت إلى لغة للمعاناة

“والدك… على الأرجح”: عندما يتحول الصمت إلى لغة للمعاناة

السينما، بكل ما تحمله من قدرة على التعبير عن الواقع وتقديمه بطرق فنية متعددة، تشكل مرآة للمجتمعات، تكشف عن تعقيداتها وآلامها وأحلامها. ومن بين الأعمال السينمائية التي تأخذ على عاتقها تسليط الضوء على قضايا إنسانية مؤلمة، يأتي الفيلم الموريتاني “والدك… على الأرجح” للمخرجين الأخوين الطيب وسيدي محمد الطلبة، ليغمر الجمهور في رحلة نفسية وعاطفية تأخذهم إلى أعماق المعاناة الفردية ليحكي قصة تراجيدية تلامس قلوب المشاهدين وتفتح أمامهم نوافذ من الأسئلة الحارقة حول الصمت الاجتماعي وتبعاته.

رمزية الفعل وجوهر الصمت


يبدأ الفيلم بمشهد صامت، تتأمل فيه الفتاة وجه والدها بنظرة غريبة، مليئة باللوم. هذه اللحظة، التي تفتقر إلى أي حوار، تحمل في طياتها كل ما لا يُقال. مع تصاعد أحداث الفيلم، يصبح هذا الصمت جزءًا من اللغة البصرية التي يستخدمها المخرجان ليرسما ملامح العلاقة المعقدة بين الأب وابنته. فالصمت في “والدك… على الأرجح” ليس مجرد غياب للصوت، بل هو أداء اجتماعي مستمر، يصبح رفيقا لا يفارق أبطاله ويرسم ملامح العجز على وجوههم. الجميع يتجنب المواجهة، لا أحد يجرؤ على الحديث، والهروب إلى مكان آخر في صمت هو الخيار الأسهل.
في لحظات الفيلم، لا تتوقف الرموز عن الحديث بلغة أكثر تعبيرا. في مشهد الحليب الذي ينقلب على الأرض، يخلق المخرج صورة قاسية مليئة بالدلالات، كأنما براءتها وطهارتها قد سُحِقت تحت أقدام المعتدي. الحليب الذي يُرمز إلى الطهارة، يجد نفسه ملوثا بدماء التقاليد والجريمة الاجتماعية مع ظهور المعتدي وهو يدوس عليه بحذائه
ثم يأتي المشهد الأكثر تأثيرا عندما نرى الأب في المطبخ، حيث يلعب الظل دورا محوريا في إظهار العلاقة المتدهورة بين الأب وابنته. الظل يتقلص كلما اقترب الأب منها، ليصبح رمزا لبعده العاطفي والإنساني عن ابنته. كأنما كلما اقترب الأب، كلما تضاءل الاحترام المتبادل، وكأن الفتاة تراه يستغني عنها في تلك اللحظة الحاسمة.


غربة الضحية في مجتمع لا يرحم


ما يثير التساؤل في هذا الفيلم ليس فقط المشاهد الدرامية العميقة، بل الطريقة التي يتعامل بها المجتمع مع المأساة. الفتاة، رغم تعرضها لاعتداء فظيع، تجد نفسها في صمت القهر والتهميش، تماما كما يحدث في مجتمع موريتاني يعاني من التقاليد القاسية التي تفرض على الضحية أن تختبئ في جلباب الصمت، خوفا من العار. ولعل ذلك ما يحدث في أغلب البلدان العربية حيث يختلط التراث الاجتماعي بالحديث عن العذرية والشرف وتكابد الفتيات ضغوطا اجتماعية رهيبة. في هذا المجتمع، الذي يتخلى عن الضحية ليفضل الحفاظ على “سمعة العائلة”، تتعرض الفتيات اللاتي يتعرضن للاغتصاب إلى جحيم من الرفض والنبذ. يقبعن في الظل، يستترن خلف ملابسهن الثقيلة التي تحاول أن تخفي قلوبهن المكسورة، ويعشن مع وصمة لا تمحى بسهولة.
في ظل هذا الصمت، تتخلى الفتاة عن قدرتها على الدفاع عن نفسها، بل تذهب بعيدا في طقسها الرمزي لتكسر الصمت في حركة غير متوقعة. في مشهد مؤثر، تقوم برمي بنطال والدها وسط الماء الملوث. هذه الحركة الممزوجة بالألم والرفض تعكس رغبتها في التخلص من وصمة العار التي تحاول التقاليد تحميلها إياها. إنها علامة على قوة ترفض الانكسار أمام الضغوط، وفي الوقت نفسه، هي وسيلة لتعبر عن تحديها للواقع الذي يحاول إجبارها على السكوت.

إن ما يظهره هذا الفيلم من خلال الصمت والألم والرمزية هو الواقع المرير للمرأة في موريتانيا وفي كثير من البلدان العربية. فبينما يتساءل الجميع عن الكيفية التي يجب أن يتعامل بها المجتمع مع ضحايا الاغتصاب، نجد أن الصراخ من أجل العدالة محكوم عليه بالسكون. فعندما تتعرض فتاة للاعتداء، لا تحظى غالبًا بالحقوق التي تستحقها، بل تُسلب منها الفرصة في الحياة بفضل هذا الصمت الجائر.
إن “والدك… على الأرجح” هو صرخة في وجه مجتمع يرفض رؤية الحقيقة، ويدير ظهره لضحاياه. هو دعوة إلى تكسير جدار الصمت الذي يسكن أرواحنا، ويعيد للنساء كرامتهن المفقودة في عالم لا يرحم.

عبير العقربي