في مثل هذا اليوم من جويلية 1960، وُلد المخرج الفلسطيني إيليا سليمان في مدينة الناصرة، ليُصبح لاحقا أحد أكثر الأصوات السينمائية فرادة في العالم العربي. يصعب تناول تجربة إيليا سليمان بالمعايير المعتادة، فهو لا يكتفي بصناعة الأفلام، بل يُعيد هندسة المكان، يُنطق الصمت، ويزرع السخرية في أكثر المساحات وجعا. يحوّل فيها الجغرافيا إلى استعارة، والواقع إلى مشهد كاريكاتوري ساخر، يعيد فيه رسم ملامح الاغتراب الفلسطيني بلغة سينمائية تتجاوز كل خطاب سياسي مباشر.
منذ ظهوره على خارطة السينما العالمية، اختار أن لا يتكلم كثيرا. لا خلف الكاميرا ولا أمامها. وفي زمن تُلهب فيه الشعارات الحناجر، بدا صمته فعلا سياسيا عنيدا، وموقفا جماليًا بالغ الدقة. لا يهمّه أن يشرح القضية، بل أن يُجسّد هشاشتها. لا يصرخ في وجه الظلم، بل يُراقبه من بعيد، يحدّق فيه بعين ساخرة، ويتركنا نتخبّط في قسوته المغلفة بابتسامة باهتة.
في أفلامه، لا نرى فلسطين كخريطة أو نزاع، بل كحالة ذهنية وجسدية، كمساحة مشتهاة، موحشة، مأهولة بالحواجز، بالعبث البيروقراطي، وبمفارقات الحياة اليومية التي لا تنتهي. لا يتوسّل سليمان العاطفة -في أعماله- ولا يطارد التماهي، بل يخلق مسافة. مسافة بين الواقع وتمثيله، بين الفلسطيني وصورته، بين الحكاية وخرابها اليومي. كل مشهد عنده مؤجّل الانفجار، محكوم ببرودة مقصودة، بجمالية محايدة تُضمر الغضب، وتُخفي الجرح خلف حركات متكررة، وإيقاع يلامس العبث. كأنّه يقول لنا: إن أبسط تفصيل في الحياة الفلسطينية هو مسرح للفاجعة، وإن أكثر اللحظات طرافة قد تكون حجابا شفيفا لما هو أقسى من أن يقال.
ليس غريبا أن يقارن سليمان بعباقرة السينما الصامتة من أمثال جاك تاتي وباستر كيتون. لكنه، على خلافهم، لا يتقمّص الصمت ليهرب من العالم، بل ليواجهه. في فيلمه «إن شئت كما في السماء»، يمشي ملامحا ذاته، في باريس ونيويورك، كما لو كان يحاول قياس المسافة بين كونه فلسطينيا وكونه إنسانا. لا يعثر على وطن، ولا على طمأنينة. كل الأمكنة تتشابه، كأن العالم نسخة مكبرة عن عبث الشرق الأوسط، وكأن الفلسطيني أينما حلّ، يصطدم باللامرئي: النظرة المرتابة، الحاجز غير المعلن، القلق المقيم في التفاصيل.
لا يُخرج إيليا سليمان أفلاما بقدر ما يزرع أسئلة في الفراغ: ماذا يعني أن تكون تحت الاحتلال، من دون أن ترفع سلاحا أو تكتب خطابا؟ هل يمكن للصورة وحدها أن تشكّل مقاومة؟ وهل الصمت شكل من أشكال الاحتجاج؟
ولعل من يتأمل أفلام إيليا سليمان يكتشف سريعا أن كل عمل من أعماله ليس مجرّد حكاية تُروى، بل تمرين بصري على إعادة تركيب العالم من شظاياه. ففي «يد إلهية» (2002)، تلك الكوميديا السوداء التي نالت استحسان النقاد في مهرجان كان، يختزل الحياة تحت الاحتلال في سلسلة من المشاهد الساكنة والمربكة، حيث يلتقي المقدّس بالسخرية، واليومي بالمعجزة، ويغدو اللاعقلاني أداة لقول ما عجز المنطق عن التعبير عنه. أما في «الزمن الباقي» (2009)، فيعود سليمان إلى الجذور، ليرسم عبر سرد شبه صامت تاريخ من بقوا في أرضهم، الفلسطيني الذي لم يُهجر جسديا لكنه عاش نفيًا داخليا طويلا، بين تآكل المكان وتحوّلات الذاكرة.
بقدر ما هي شاعريّة، تبدو سينماه كأنها دعوة للبطء في عصر مسرف في السرعة. دعوة للتفكر في معنى الوطن حين يُختزل إلى ورقة عبور، أو حين يتحوّل إلى غياب دائم. دعوة لاكتشاف الهزل كوسيلة تفكيك، وكأداة وعي. هو لا يريد أن يضحكك لتنسى، بل ليذكّرك بعبث هذا العالم، بوجع يضحك أحيانا لأنه فاق طاقة البكاء.
لا يلجأ سليمان إلى الخطابة، بل إلى السكون. هو وريث صامت لأولئك الذين حولوا الكوميديا إلى شكل فلسفي من أشكال المقاومة، بدءا من تشارلي شابلن، مرورا بجاك تاتي، وانتهاءً به هو، الذي يحمل الكاميرا ليعرّي العالم من عبثه.
في ذكرى ميلاده، لا نحيي فقط اسما ضمن لائحة المخرجين العرب، بل نقف أمام تجربة تحفر مكانها خارج التصنيفات الجاهزة، تجربة تعيد الاعتبار للصورة بوصفها بيتا مؤقتا للفلسطيني، ومساحة للحرية حين تضيق الأمكنة.