“ماتيلا”: تسديدة سينمائية مباشرة في مرمى حي ينزف وجعا

You are currently viewing “ماتيلا”: تسديدة سينمائية مباشرة في مرمى حي ينزف وجعا

“ماتيلا”: تسديدة سينمائية مباشرة في مرمى حي ينزف وجعا

منذ الثورة التونسية عام 2011، شهدت السينما الوثائقية في تونس طفرة ملحوظة، حيث أصبحت نافذة للغوص في أعماق الواقع الاجتماعي والسياسي. تراكمت هذه الأفلام كاستجابة مباشرة لتحولات البلاد، مستفيدة من مناخ الحرية الذي سمح لصناعها بطرح قضايا كانت مهملة أو مسكوتا عنها. ومع ذلك، على الرغم من هذا الزخم الإنتاجي، فإن قلة قليلة من هذه الأفلام نجحت في تقديم صورة حقيقية ومؤثرة لمعاناة الفئات المهمشة في المجتمع. ويأتي فيلم “ماتيلا” للمخرج التونسي عبد الله يحيى ليبرز ضمن هذه الفئة من الأعمال، مؤكدا أن الحقيقة ليست دائما مشرقة، وأن الواقع قد يكون قاسيا ولا يرحم.

 الفيلم الذي استغرق تصويره نحو ثلاث سنوات، ليس مجرد حكاية عن مراهق يعاني من التهميش والإحباط في تونس ما بعد الثورة، بل هو رحلة محورية في الزمن، يحملنا فيها المخرج عبر أزمنة متقطعة بين الماضي والحاضر ليكشف لنا عن صور مأساوية، لكنها مليئة بالآمال. “ماتيلا” هو بمثابة صرخة من أعماق الحي التونسي، تسرد لنا حياة الشاب ريان، الذي يبحث عن ذاته وسط أزمة هوية ومشاكل اجتماعية تطوقه من كل جانب.

ماتيلا…وللحديث بقية

يبدأ الفيلم بمشهد جنازة لا يظهر منه سوى طرف خيط من الحقيقة، ولكن المخرج لا يكشف لنا تفاصيله إلا في وقت لاحق، حين يعيدنا إلى السنوات الماضية حيث كانت وفاة “عمر”. مشهد تتردد فيه كلمات دعاء يملؤها الوجع: “رحمان يا رحمان هذا عبدك…واليوم يا رحمان قاصد فضلك…”، ليكون هذا الافتتاح أكثر من مجرد بداية تقليدية، بل مفتاحا لرحلة عميقة في أعماق النفس البشرية.

 يعلِمنا “عبد الله يحيى” منذ البداية أن الحياة ليست سوى سلسلة من الحلقات المتشابكة، ففي مواقف كهذه، نجد أنفسنا مدفوعين للسؤال عن أسباب الفقدان، عن القوة الخفية التي جعلت تونس تفقد شبابا في عمر الزهور، ودفعت العديد من شباب هذا البلد لترك مقاعد الدراسة ومغادرة دفء العائلة نحو عالم مظلم. إنها مزيج من الأزمات الاقتصادية، والاجتماعية، والنفسية، التي تجتمع كدوامة تجرف أحلامهم، وتحرمهم من فرص مستقبلية، وتدفعهم إلى المجهول. في هذا السياق، يصبح العنف الاجتماعي، ومشاكل الأسرة والمجتمع، ساحة مفتوحة لزرع بذور انحراف ودمار. مثلما تقول أحد الشخصيات في الفيلم: “اللي يطيح يخلص” وإن كانت هذه الكلمات تسلط الضوء على واقع قاسي، فإنها في الوقت ذاته تبين عجز النظام عن معالجة الفقر والتهميش.

يعرفنا المخرج عن بطل الفيلم تدريجيا. “ماتيلا” كما يطلق عليه، هو التواء لفظي بسيط لمحاولة صادقة من قبل شقيقة البطل لتلفظ اسمه الحقيقي، “ريان”، الذي يتحول في لحظة عفوية إلى اسم يوازي “مادونا” في محيطه. لكن الاسم، الذي يرتبط بلاعب كرة قدم أفريقي، يرمز لآماله وتطلعاته، ويجسد حكاية الفتى الذي يطارد حلمه في عالم ضيق يعصف به. في هذا السياق، نجد أن كرة القدم تشكل الهروب من واقع مرير، حيث يجد ريان نفسه في مواجهة مع واقع تتآكله الشوارع، وتنخره أوجاع الشباب الذين يسعون وراء الممنوعات، من “الزطلة” إلى الحقن والأقراص وغيرها من وسائل الادمان.

الهجرة ووجع الفقدان

يطرح الفيلم قضية الهجرة غير النظامية، التي تمثل أحد الموضوعات المحورية في السياق التونسي المعاصر. غياب الأم والأب، اللذان غادرا البلاد عبر البحر بشكل غير قانوني، واكتفائهما بمكالمات هاتفية مع ابنهم، يظهر لنا مدى تأثير العائلة الممزقة على النفسية التونسية. دموع “ريان” وهو يسرد لحظات توديع والدته له تكشف عن الوجع العميق الذي يعيشه هذا الفتى. رغم أن المكالمات الهاتفية تمثل محاولة تعويضية، إلا أن الواقع يظل قاسيا. هنا، يُصور المخرج التوتر الحاد بين الفقدان واحتياج الشخص إلى الأمان العاطفي. بل إن الشخصيات الأخرى في الفيلم تؤكد أن الحياة أصبحت مفروضة على الشباب من خلال قسوة الواقع وعدم وجود خيارات أخرى سوى الهجرة، بحثا عن الأمل المفقود.

لعل اكثر الشخصيات التي تشد انتباه المتفرج هي “ضحى بن صالح” أحد الأضواء التي تنير طريق ريان، فهي الشخصية المعينة التي تتحمل عبء التوجيه والحماية. تضحي ضحى بجزء من حياتها لكي تساعد المراهقين على الخروج من دوامة الانحراف. إذ تخصص مهارتها في تدريب كرة القدم لتكون ساحة للهروب من مشاعر التهميش والإحباط. تؤمن بأن الرياضة يمكن أن تكون منقذة للأرواح الضائعة، وأن نمط حياة صحي قد يكون الحل لكثير من المشاكل التي يعاني منها أبناء حي “الملاسين” وحارات تونسية عديدة. 

 ينتهي فيلم “ماتيلا” برسالة موجهة، باللغتين الانقليزية والفرنسية، إلى ضحايا العنف، المخدرات، والتهميش في الأحياء الشعبية التونسية. ورغم أن المخرج يوجه تحيته خصيصا إلى ضحايا حي “هلال” و”الملاسين”، إلا أن الفيلم يعبر عن حالة عامة تكتسح العديد من الأحياء في تونس، حيث المعاناة واحدة، والآمال متشابهة. إن فيلم “ماتيلا” لا يسعى للهرب من الواقع، بل يدعونا لمواجهته برؤوس مرفوعة، ويظهر بوضوح كيف أن الرياضة قد تكون أداة النجاة من مجتمع عميق الجراح.

عبير العقربي