في عالم تسرق فيه الذاكرة وتتوارى الحقائق خلف الجدران، ظل قيس الزبيدي (1939-2024) المخرج العراقي الذي جعل من الكاميرا سلاحا، ومن الشاشة منبرا للحقائق المغيّبة. برحيله يوم أمس، الأول من ديسمبر 2024، فقدت السينما الوثائقية العربية أحد أبرز فرسانها، الذي كرّس حياته لالتقاط صور المعاناة ونضالات الشعوب، واضعاً القضية الفلسطينية في قلب عدسته وفي عمق وجدانه.
“واهب الحرية”: وداعٌ بصوت العدالة
وكأن القدر كتب أن يظل قيس الزبيدي حاضرا حتى بعد رحيله. بعد يوم واحد من وفاته، أعلنت أيام قرطاج السينمائية اختيار فيلمه “واهب الحرية” ليكون فيلم افتتاح الدورة 35. هذا العمل، الذي أعيد ترميمه وعرض لأول مرة في تونس بعد 37 عاما، يعد شهادة سينمائية خالدة على نضالات الشعبين الفلسطيني واللبناني ضد الاحتلال الإسرائيلي.
هذا الاختيار يحمل دلالة عميقة، فالسينما التي آمن بها الزبيدي أبت أن تطفأ أضواء حضوره بعد وفاته، مُكرّسة رسالته في الدفاع عن حقوق الشعوب عبر شاشة تُبقي الذاكرة حيّة. “واهب الحرية” هو وثيقة تاريخية، تتحدث عن نضال أمة، وكأنها رسالة وداع من المخرج الذي ظلّ صامداً بالكاميرا أمام كل الانكسارات.
رحلة سينمائية بمذاق المقاومة
وُلد قيس الزبيدي في بغداد، لكن روحه تشبّعت بهواء فلسطين، حيث شكّلت القضية الفلسطينية بوصلة أعماله ومصدر إلهامه. لم يكن مجرد مخرج يسرد القصص، بل كان شاهدا يسعى لتوثيق ما لا ينبغي نسيانه. فمنذ أن درس السينما في ألمانيا، حيث حصل على دبلومات في المونتاج والتصوير، حمل الزبيدي على عاتقه مسؤولية صنع سينما تُحدث أثرا أبعد من حدود الترفيه.
فيلمه “بعيدا عن الوطن” (1969) كان بداية لتلك الرحلة. عمل ألقى الضوء على واقع اللاجئين الفلسطينيين من خلال عيون الأطفال في المخيمات، ليصبح لاحقا نقطة تحوّل لمسيرته الفنية والسياسية. ومع أفلام مثل “نداء الأرض” (1976) و”واهب الحرية” (1987)، ظلّ الزبيدي متفرّدا برؤيته، مُقدّما أعمالا تُعبّر عن روح المقاومة والصمود، بأسلوبٍ يجمع بين جماليات الصورة وحساسية الموقف.
بأسلوبه الفريد الذي يمزج بين الفن الواقعي والرؤية التسجيلية، يُقدم الفيلم رؤية جمالية للنضال الإنساني، تتجاوز البعد السياسي لتغوص في المعاني الإنسانية الأعمق.
في هذا اليوم، نتذكر مخرجا عاش كاميرته، وأحب وطنه العربي بأكمله. برحيله، تظل أعماله شاهدة على روح لم تستسلم يوما للظلم. لقد أثبت الزبيدي أن السينما ليست مجرد فن بصري، بل هي فعل مقاومة، ووسيلة لإحياء الذاكرة، وكأن كل فيلم صنعه هو رسالة حب أخيرة، تهدى لمن لم يتوقف عن الإيمان بقوة الصورة والكلمة.
ختاما، يُقال إن السينما تُخلّد أصحابها، وهذا ما ينطبق على قيس الزبيدي، الذي لا يزال حضوره ينبض في كل إطار صوّره، وفي كل قصة وثّقها.