بعد جولة ناجحة في المهرجانات العالمية، استقبلت قاعات السينما التونسية الفيلم السوداني “وداعا جوليا” ، الذي يعد أول فيلم روائي طويل للمخرج محمد الكردفاني. يمثل هذا العمل نقطة تحول في السينما السودانية، حيث يتناول قصة مؤثرة تعكس الواقع المضطرب في السودان، ويعتبر كتحفة سينمائية نادرة تنشأ في بلد تعصف به الحروب والاضطرابات منذ عقود.
ينطلق فيلم “وداعا جوليا”، من الأحداث المتصاعدة عقب اغتيال زعيم الحركة الشعبية لتحرير السودان “جون قرنق” في عام 2005، وتحديدا قبل انفصال الشمال عن الجنوب بست سنوات.
في أنجح أعمال محمد كردفاني السينمائية، يعرض للجمهور سردا جذابا يحيط به ثنائي استثنائي، “منى”(إيمان يوسف) و”جوليا” (سيران رياك)، احداهما مسلمة من شمال السودان والأخرى مسيحية من الجنوب.
قصة بطلها الكذب:
يحتل الكذب موقعا مهما في قصة الفيلم، حيث يبرز أولا في شخصية “منى” التي تتقن فن الكذب، ويظهر ذلك بوضوح منذ لحظات مشهد إعدادها للإفطار، حيث قامت بحرق البيض أثناء طهيه، ثم أنكرت أمام زوجها أنها قامت بتجهيزه بالأساس.
تكشف هذه الكذبة العلاقة الهشة بين منى وزوجها، ممهدة الطريق للحادث الذي تورطت فيه البطلة التي تدور حوله قصة الفيلم. فبدل أن تعترف بصدمها لطفل صغير بسيارتها، ادعت أن رجلا من الجنوب يطاردها، مما دفع زوجها لاتخاذ قرار بقتله في ظل تصاعد الأحداث.
تبحث “منى” بدورها عن طريق آخر للحرية، ومخرجا من العزلة التي يبرزها بشكل خاص عدم فهم زوجها وحاجتها في كل مرة للاستناد على الكذب كحل للهروب من مشاكلها. يحرص المخرج على تصوير توق البطلة لمعانقة الحرية عن طريق عديد الرموز مثل مشهد اطلاق سراح العصافير.
في سياق اخر تعاني منى من عذاب الذنب الذي تحمله بسبب جريمة قتل يغطيها السر، بينما تبحث جوليا بيأس عن زوجها المفقود. في محاولة لتصحيح مسار حياتها، تقدم منى يد العون لجوليا عبر توظيفها كعاملة في منزلها، وتوفير سقف وحماية لها ولابنها دانيال، دون الكشف عن حقيقة دوافعها الحقيقية. وهكذا، تستمر منى في إخفاء الحقيقة عن أكرم، وتتشابك أسرارها مع أسرار جوليا.
فهل ستتمكن هذه الأسرار المدفونة من التصدي لاختبار الزمن، وتتحول علاقة الغرباء إلى صداقة متينة مع مرور الوقت، وخاصة في ظل اقتراب التصويت على تقسيم البلاد؟
مأساة بلد ممزق:
الحرب والقتل والأكاذيب والخيانة والحب والانتقام، كل مكونات المأساة موجودة في هذا الفيلم الروائي الأول لمحمد كردفاني والذي، من خلال الصداقة بين امرأتين لم يكن من المفترض أن يلتقيا، يغمرنا في تاريخ بلد ممزق.
مستلهما من رحم المأساة اليونانية، يقدم فيلم “وداعا جوليا” رؤى عميقة حول جذور الصراع في حرب أهلية تمزق مواطنيها، ليجد الجميع أنفسهم أسرى في دوامة لا هوادة فيها، بغض النظر عن انتماءاتهم.
من خلال عديد المشاهد، يظهر المخرج “الكردفاني” صراع الهوية الذي يعاني منه الشعب السوداني. يجد الأفراد أنفسهم محاصرين بين اختيارات صعبة، ما بين الانقسام والرحيل عن الوطن، أو البقاء والتصدي لتهديدات الفقدان لديانتهم وثقافتهم. يظهر الفيلم ببراعة كيف أن الدين، في بعض الأحيان، يعتبر رمزا مهما لهوية الشعب، وكيف أن الشخصيات تتحدى الصعاب للحفاظ على هذا الجانب الحيوي من حياتهم.
إن توافق هوية الفرد مع هوية مجتمعه يعني الأمان والراحة والشعور بالانتماء، بينما تصادم الهويات يؤدي إلى الأزمات والاغتراب. يظهر الفيلم بوضوح كيف أن الصراع حول الهوية الدينية يعتبر أحد العوامل الرئيسية وراء ظاهرة التطرف المسلح والعنف الطائفي، حيث يندرج هذا الصراع ضمن سياقات أوسع لتقاطع الثقافات والمصالح السياسية والاجتماعية.
تحضر العنصرية في الفيلم في شكل طقوس تتوارث بصفة تلقائية بدون وعي من الشخصيات، فنجدها في كثير من الأحيان تتجسد على لسانهم. ولعل ذلك يظهر من خلال حوار منى وزوجها الذي يصف بدوره الجنوبيين “بالعبيد” ونسائهم “بالعاهرات الخائنات لأزواجهن”.
ولعل المخرج نجح في التعبير عن أهمية التضامن والتسامح واحترام الاختلاف من خلال جملة من المشاهد، من أبرزها توظيفه لأغنية “جاري وأنا جارو” التي قامت بأدائها بشكل رائع شخصية “منى”.
باختصار، يعتبر “وداعا جوليا” صالحا لكل زمان ومكان، فهو ترنيمة مؤثرة للسلام والمصالحة، صاغت باتقان مع إخراج دقيق يتيح للقصة أن تكشف عن ذاتها بوتيرة محسوبة، من خلال لحظات صمت عميقة وحركات كاميرا غالبا ما تكون بطيئة.