مجرد ورشة في النقد السينمائي؟ … ما خفي كان أعظم!

You are currently viewing مجرد ورشة في النقد السينمائي؟ … ما خفي كان أعظم!

مجرد ورشة في النقد السينمائي؟ … ما خفي كان أعظم!

عزيزي القارئ، بداية، وجب التنويه أن ما ستقرأه هنا قد لا يتوافق تماما مع المعايير التقليدية للمقالات الصحفية الأكاديمية أو النقدية. بل فهو انعكاس لتجربة شخصية تتماهى فيها السينما مع الذات، حيث تتشابك الأفكار وتتشكل المعاني من رحم اللحظات واللقاءات الجميلة. هو سرد لرحلتي الخاصة في ورشة الكتابة والنقد السينمائي التي نظمتها جمعية “صدى” تحت اشراف كل من “سهام الصيداوي” و”إيمان الغربي”.

إنها تجربة ذاتية حملت في طياتها دعوة صادقة لمشاركة ما يختبئ في زوايا الروح من خلال الكتابة. فالكتابة الصحفية ليست مجرد وسيلة لنقل الأخبار فقط، بل هي نافذة تطل على أعماق النفس البشرية وتترجم هواجسها وأحلامها إلى كلمات.

عودة بطعم الذكريات: 

شهد العام المنقضي أول زياراتي للمهرجان الدولي لفيلم الهواة بقليبية الذي واكبته كصحفية في مجلة “سكرين عربية”، وخلال تلك الزيارة اكتشفت سحر المكان ونبض السينما التونسية في أعمق حالاتها وأكثرها عفوية. لقد أعادني ذلك اللقاء الأول إلى جذوري الصحفية، حيث وجدت في تلك التغطية أكثر من مجرد سرد للأحداث، كانت رحلة نحو فهم أعمق للسينما كمرآة تعكس أحلام وآمال صانعي الأفلام الشباب.

أما هذا العام، فعودتي إلى قليبية جاءت بنكهة مختلفة تماما.

في لحظة من حياتي، حيث كنت أبحث عن عمق أكبر في كتاباتي، قادني شغفي المتأصل بالكلمة إلى عالم لم أكن أعلم أنني أنتمي إليه منذ البداية—عالم السينما. هذا الشغف بالكتابة، الذي طالما كان مرشدا لي في رحلتي، قادني في نهاية المطاف إلى أبواب ورشة الكتابة والنقد السينمائي، تلك التجربة التي تزامنت مع المهرجان الدولي لفيلم الهواة بقليبية.

الفيفاك… ذلك المهرجان الذي لا يكف عن سحر قلبي مع كل دورة جديدة. هنا، حيث، تعرض أفلام الهواة في أجواء استثنائية . جمهور وفيّ يعود كل عام، يتابع الأفلام بشغف ويناقشها بعين الناقد المحب في فعالية تحولت إلى طقس سنوي لا غنى عنه.

نقد سينمائي…وما بعد ذلك؟

غمرتني السينما بحضورها الطاغي، تنفست إبداعها حتى امتلأت رئتاي بأحلام جديدة، واستنشقت هواء سينمائيا أضاء زوايا عقلي.

في هذه الورشة، قد تظن أن الأمر يقتصر على تلقي معلومات أكاديمية تقليدية، أو تكرار ما قيل في ورشات أخرى. لكنني أؤكد عزيزي القارئ، أن ما يجري هنا أعمق وأغنى مما قد تتخيل…فبينما يحيط بك أشخاص يحملون على أكتافهم أثقال تجاربهم، تنساب النقاشات العميقة كما ينساب النهر في مجراه، وتتلاقى الأفكار في انسجام.

بدأت الورشة بعرض فيلم “ريح السد” للمخرج نوري بوزيد، وهو عمل سينمائي يتناول تجربة إنسانية معقدة. كانت هذه البداية بمثابة نافذة إلى عالم من الصراع والتراجيديا، حيث يقدم بوزيد مشهدا دراميا يعبر عن صراع الرجولة والجسد. من خلال هذا العمل، تلقيت دعوة لمقاربة الجسد كركح للتراجيديا، واستكشاف كيفية تجسيد التوترات الإنسانية الكبرى عبر سينما بوزيد.

 في كل مساء، كانت الوجهة “دار الشعب”، أين تقام سهرات “الفيفاك” طوال أسبوع كامل. اما بعد هذه السهرات، كنا نقضي النهار بأكمله في نقاشات حول الأفلام التي شاهدناها. تحلقنا حول موائد السينما، نتشارك الأفكار ونتبادل الرؤى، وكل منا يحمل في جعبته تجاربه الخاصة. كانت تلك اللحظات كفيلة بتغيير مفاهيمي، وإعادة تشكيل نظرتي للأفلام، للحياة، وللكتابة نفسها.

كانت النقاشات تتوج بمقالات تحليلية ونقدية عميقة حول أفلام نختارها بعناية. ولم يتوانَ المدربات عن الغوص في تاريخ السينما التونسية، مع التركيز على سينما الهواة التي شكلت رافدا أساسيا لهذا الفن. كما أضأن على إسهامات كبار السينمائيين الذين رفعوا من شأن الفن السابع في تونس. ولم تقتصر الورشة على الجانب النظري، بل امتدت إلى استكشاف أساسيات التصوير السينمائي وأسرار إخراج الأفلام الناجحة، مما أضاف بعدا عمليا ثريا للتجربة.

خلال الورشة، وبينما نغوص في أعماق التحليل والبناء المشترك، تعلمت كيف أرى السينما بعين جديدة، نظرة غنية بالمعاني، مفتوحة على آفاق أوسع. حيث ينبض الحوار الجماعي بالحياة، ويتوهج الذكاء الجمعي بأفكار جديدة تتشكل مع كل كلمة. ولا يسعني إلا أن أتخيل كيف يمكن لهذا النهج أن يغير مجرى السياسة في بلادنا إذا استطعنا تطبيقه. كم نخسر من معاني الحياة حين نكتفي بوجهة نظرنا الفردية! وهذا هو الدرس الذي يمكن أن تقدمه السينما للسياسة.

لم يكن الأمر مقتصرا على الأفلام التي شاهدناها أو المعلومات التي تلقيناها، بل ساهمت في شعوري كما لو أنني وجدت ضالتي أخيرا، وأن الطريق للمستقبل قد رسم أمامي بشكل تلقائي. أصبحت السينما لي أكثر من مجرد فن، بل عالما أجد فيه نفسي، أرى فيه أحلامي تتحقق على الشاشة، وأشعر فيه بانتمائي الكامل.

هذه التجربة لن تكون عابرة في حياتي، بل مثلت نقطة تحول. من خلالها، أدركت أن مسيرتي المهنية ستستمر في هذا المجال، وأنني سأواصل الكتابة عن السينما بشغف. ربما نلتقي مرة أخرى، أيها القارئ العزيز، في مقال آخر أكثر عمقا واحترافية، محملا بأهم المعلومات السينمائية وأعظم التجارب التي سأمر بها. فالكتابة للسينما ليست مجرد مهنة بالنسبة لي، بل هي رسالة وشغف ينبض بالحياة.