في أحلك اللحظات، حين يخبو ضوء الواقع وتبقى جذوة الأحلام وحدها مشتعلة، تنبثق الشاشة الكبيرة كنافذة تطل على عوالم لا يدركها إلا الخيال. السينما، تلك اللغة الغامضة التي تخترق الحواس لتأخذنا إلى عوالم تتجاوز المرئي والمألوف، تتحول إلى مسرح تلتقي فيه الأحاسيس المتناقضة: الحلم والخيبة، الصمود والانكسار، الأمل واليأس. ليست السينما مجرد فن عابر أو وسيلة للترفيه، بل هي ميدان للمعارك التي نخوضها ضد النسيان ومرآة تعكس أعماقنا الخفية وتعيد تشكيل ذواتنا. لكن عندما تمسك المرأة بالكاميرا، تصبح هذه المرآة أكثر شفافية وجرأة، وتتحول اللقطة إلى صوت يعبر عن أوجاع لم تُقل، وعن أحلام ظلت معلقة في فضاء الزمن. المرأة في السينما ليست مجرد راوية، بل هي ساحرة تعيد تشكيل الصورة، تمنحها حياة جديدة، وتنقش في تفاصيلها بصمة لا يمكن محوها.
وعندما تمسك المرأة بالكاميرا، تزداد الصورة عمقا ووضوحا، إذ تتحول اللقطة إلى بوح صامت، يعبر عن جراح متوارية وأحلام تنتظر الانبعاث. فإن الأنامل الأنثوية في السينما ليست مجرد ناقلة للحكايات، بل هي مبتكرة تنسج واقعا جديدا، تعيد تشكيل الصورة، وتترك بصمة لا تمحى على شريط الحياة. ولعل “المهرجان الدولي لفيلم المرأة- بعيونهنّ” أكبر شاهد على ذلك. إذ جاء ليحمل تلك الروح النسائية السينمائية، نافذة مفتوحة على إبداعات المرأة خلف الكاميرا.
مسك الختام
ها هو اليوم، 16 أكتوبر 2024، يُختتم مهرجان “بعيونهنّ” في نسخته الخامسة بدار الثقافة بنابل، بعد أسبوع حافل بالأنشطة وعروض الأفلام التي حملت توقيع مخرجات من مختلف أنحاء الدول. كانت لحظة الاختتام مشحونة بالفخر والاعتزاز، حيث عبّرت مؤسسة المهرجان، منال السويسي، في كلمتها عن فخرها بما حققه المهرجان، مشددة على أن “بعيونهنّ” يمثل فضاء حرا وآمنا للسينمائيات ، يمنحهن الفرصة لإثبات وجودهن وايصال أصواتهن. ليكون بذلك منصة فريدة تبرز إبداع المرأة العربية في السينما، وتتيح لها المجال للتألق على الساحة الفنية.
في جو من الحماسة، تم الإعلان عن الفائزات بالجوائز الرئيسية للمهرجان. حصد فيلم “راعي البقر الأخير” للمخرجة بسمة شيرين جائزة أفضل فيلم قصير. بينما نالت المخرجة الجزائرية إيمان عيادي جائزة أفضل عمل سينمائي يمثل المرأة عن فيلمها “نية”.
لم تكتف لجنة التحكيم بالإشادة بالفائزين فقط، بل قدمت تنويهات خاصة لأعمال أخرى كانت استثنائية في مضمونها وإخراجها. هي كل من فيلم “أوراق جافة” لدليلة الدرعية من سلطنة عمان، “ملح البحر” لليلى بسمة من لبنان، فيلم “أحمر” للمخرجة المصرية جميلة ويفي، إلى جانب عن فيلم “ذاكرة مهمشة” للفلسطينية حياة بنان.
لم يقتصر المهرجان على أن يكون مجرد حفل للجوائز، بل كان فرصة لتكريم شخصيات بارزة في عالم السينما العربية. وكانت المخرجة الأردنية خديجة حباشنة، التي لطالما شكلت رمزا للنضال السينمائي النسائي، في مقدمة المكرمين. مثل تكريمها تأكيدا على أن السينما ليست مجرد حكاية تروى، بل هي وسيلة للتغيير والمقاومة، خاصة عندما تكون أداة في يد امرأة تمتلك الرؤية والشجاعة لطرح قضاياها الخاصة.
في حب السينما
على مدار أسبوع كامل، لم يكن مهرجان “بعيونهنّ” مجرد فعالية سينمائية عابرة، بل كان نبضا حيا يعكس قوة المرأة العربية في عالم السينما. ورغم التحديات المادية المحدودة والظروف الصعبة التي تحيط بتنظيمه، أثبت المهرجان أن جوهر السينما لا يقاس بحجم الميزانيات، بل بالإرادة الصلبة لمواجهة الصعاب مهما كانت، حتى لو كان ذلك على حساب النفس. فالمهم هو استمرار الفعل السينمائي وإقامة مهرجانات في البلاد. ربما هنا، تكمن القوة الحقيقية للسينما، في قدرتها على تحويل التحديات إلى فرص واستعادة الأمل حتى في أصعب اللحظات. فمع هذا المهرجان، تتغير المفاهيم، وتتجذر العقلانية، ويظل حب السينما شهادة على عطاء لا ينضب.
السينما بعيون النساء ليست مجرد عرض بصري، بل هي لغة تنفذ إلى أعمق زوايا الروح، تطرح أسئلة، وتكشف عن أبعاد جديدة للحياة. الكاميرا في يد المرأة هي سلاح يقاوم الصمت، يعبر عن الصراع، ويجعل الحكايات أكثر إنسانية وصدقا وفي هذا المهرجان، كان التحدي هو تجاوز القيود وتقديم سينما مختلفة، أكثر قربا من التفاصيل، وأكثر قدرة على الغوص في عمق التجربة النسائية. ولعل الأفلام المشاركة تُثبت صحة ذلك، إذ سلطت الضوء على قضايا متنوعة ومهمة، مثل الإعاقة الذهنية، والاغتصاب، والتحرش، واستقلالية المرأة، مما يعكس عمق التجارب الإنسانية وتحديات الحياة التي تواجهها النساء في المجتمع.
“بعيونهنّ” هو تجسيد لروح المرأة السينمائية: الرؤية أوضح، التفاصيل أعمق، والقضايا أكثر قربا للواقع. ففي هذه النسخة الخامسة، أثبت المهرجان أن السينما ليست مجرد صناعة أفلام، بل هي فعل مقاومة، وهي أيضا وسيلة لاكتشاف الذات وإعادة تعريف الأنوثة في عالم يمتلئ بالتحديات. في “بعيونهنّ”، هنا، تنبض السينما بحياة جديدة، حيث تتجلى التجارب الإنسانية في أبهى صورها، ويفتح الحوار بين الأجيال نافذة على العالم، حيث يصبح صوت المرأة هو النغمة الأساسية في سيمفونية الإبداع.