نشر هذا الحوار في عدد فيفري 2022 ويمكنكم تحميله مجانا هنا
يسرى الشيخاوي
ابتداء من الـ6 من شهر جانفي/ يناير، أطلقت قافلة بين سينمائيات برنامجها الجديد “كارت بلانش” للعروض السينمائية خلال سنة 2022، برنامج يتيح للجمهور السفر السينمائي المختلف بين تفاصيل تجارب سينمائية لعدد من المخرجات.
وقافلة بين سينمائيات مبادرة مستقلة بدأت في مصر في عام 2008، تدير القافلة مجموعة من صانعات الأفلام، وتسعى من خلال العروض المتنقلة في عدد من البلدان وعروض الأونلاين للأفلام التي تصنعها نساء على مستوى العالم إلى دعم دور المرأة في صناعة السينما.
هذه المبادرة تسعى كذلك إلى خلق شبكة دولية من صانعات الأفلام من مناطق مختلفة حول العالم، وخاصة من العالم العربي، وتقوم بدور فعال في مجال التعليم السينمائي وتدريب النساء على تقنيات عمل الأفلام التسجيلية الإبداعية وذلك في مجالات الإخراج والإنتاج والمونتاج والتصوير، وكذلك دعم المشاريع السينمائية للنساء في أي من مراحل الإنتاج.
برنامج “كارت بلانش”
البرنامج يقوم على فكرة إعطاء “الكارت” (ورقة) في كل مرة لواحدة من السينمائيات لترسم ملاح رحلة مختلفة في عوالم الأفلام إذ تقترح فيلمها المفضل لسينمائية أخرى ليعرض لمدة أسبوع على موقع القافلة بداية من الخميس الأول من كل شهر.
عند انتهاء أيام العرض يحل دور مناقشة رقمية (اون لاين) تدريها حاملة “الكارت بلانش” مع ضيفتها مخرجة الفيلم في الخميس الثاني من كل شهر، ويتضمن برنامج العروض 12 فيلما تسجيليا وروائيا، عربيا وأجنبيا على مدار العام وحوارات مفتوحة أون لاين بين 24 مخرجة بحضور الجمهور من مصر والعالم العربي من خلال موقع بين سينمائيات.
وعروض البرنامج انطلقت، الخميس 6 جانفي/ يناير لتمتد إلى 13 جانفي/ يناير بعرض فيلم “ساكن” للمخرجة والممثلة والكاتبة الفلسطينية المولودة في الأردن، ساندرا ماضي، وهو من اختيار المخرجة اللبنانية إليان الراهب التي حاورت مخرجة الفيلم في حضور الجمهور الخميس 13 جانفي/ يناير.
وعن هذا البرنامج تقول المخرجة أمل رمسيس مديرة ومؤسسة قافلة بين سينمائيات أنه جزء من مساعي القافلة لتوسيع شبكتها من المخرجات من خلال تقديم مخرجة لمخرجة أخرى، فاختيار كل مخرجة يلقى الضوء على طبيعة الأفلام التي تشكل وعيها السينمائي وما الذي يجعلها ترتبط بفيلم ما كصانعة أفلام.
وهذه التجربة، حسب رمسيس، “تجعلنا نكتشف زوايا جديدة ومختلفة في الأفلام ربما لا ننتبه إليها خلال مشاهدة الأفلام التي نراها من وجهة نظر الجمهور أو النقّاد في العادة، فالمخرجين لا يعيشون في جزر معزولة وإنما هناك حالة من التفاعل بين صناع الأفلام فيما بينهم و”كارت بلانش” يقربنا أكثر مما نحبه ما كمخرجين في أفلام بعضنا البعض.”
عن عروض الأفلام، تضيف أن الأفلام في هذا البرنامج مفتوحة على اختيارات المخرجات المتنوعة، وبعضها حديثة وبعضها قديمة، منها العربية والأجنبية، ومنها الروائية والتسجيلية، مشيرة إلى أن كل مخرجة تدير حوارًا بحضور الجمهور مع المخرجة التي اختارت فيلمها الأمر الذي يطرح أسئلة جديدة ويضفي ثراء وتنوعا على تجربة المشاهدة.
في سياق متصل تتوقع مديرة قافلة بين سينمائيات أن يكون “كارت بلانش” جذابا لطيف واسع من الجمهور لأنه برنامج متنوع ليس فقط من ناحية اختيار الأفلام وإنما أيضا من ناحية تقديم أصوات المخرجات ورؤاهن، مضيفة “في كل شهر نتعرف أكثر على مخرجتين وفيلم فيقترب الجمهور أكثر من عالم مخرجتين قد لا يعرف عنهما وعن أعمالهما الكثير”.
عين على فيلم “ساكن”
“يا جماهير الأرض المحتلة.. حرب التحرير يا جماهيرنا طويلة ومرة.. باسم فلسطين ثورتنا ثورة مستمرة.. لا بنسالم لا لا ولا بنساوم لا لا.. لا بنسالم ولا بنساوم على حبة رملة” كلمات يتردد صداها على امتداد مسافة فاصلة بين الموت والحياة.
هذه الكلمات تسللت من حنجرة إبراهيم سلامة المقاتل الفلسطيني الذي خسر حركته طيلة ثلاثين عاما لإيمانه بالقضية الفلسطينية وإصراره على خوض حرب التحرير كلفه ذلك ما كلفه.
بعض الحروف سقطت وهي تغادر داخل إبراهيم المسكون بالثورة لترتطم بجسده الساكن منذ ثلاثة عقود، إلى أن غابت وعانقت روحه السماء بعد أن ظلت حبيسة غرفة في مستشفى جيش التحرير الفلسطيني بالأردن منذ 14 عاما.
بصوت المقاتل الذي لم يساوم ولم يسالم ولم يستسلم، وشحت المخرجة الأردنية ساندرا ماضي فيلمها التسجيلي “ساكن” وكأن بها تقول إن صوت الثوار لا يتلاشى وان غادروا هذا العالم.
وعنوان الفيلم، الذي استهل برنامج “كارت بلانش”، يحيل إلى جسد إبراهيم الساكن عن الحركة وإلى كل من سكن إلى التطبيع مع ما يحصل في فلسطين، ويتضاد مع الكاميرا المتحركة الموغلة في زوايا إنسانية تجعلك تتفكر في الماضي والدتي.
ثمانون دقيقة ترصد فيها المخرجة يوميات “إبراهيم” في غرفة المستشفى، وعلاقته ب”وليد” الشاب المصري القادم إلى الأردن للبحث عن فرصة عمل يغير بها حياته وحياة عائلته التي لازمت أحد أرياف مصر.
“إبراهيم” المتشبث بأمل العلاج و”وليد” المتمسك بحلم ضمان العيش الكريم، يلتقيان في نقطة فاصلة بين تجليات الموت وتمظهرات الحياة وكل منهما يحمل تجاربه وهواجسه وأفكار.
بون ثقافي وسياسي وعمري بينهما ولكن علاقتهما الانسانية أقوى من كل الاختلافات، علاقة بلغت ثلاث عشرة سنة من عمرها، علاقة كان فيها “وليد” يديه وقدميه وعينيه على الخارج.
وإن صورت كل المشاهد تقريبا داخل غرفة المستشفى، باستثناء بعض المشاهد الخارجية، إلا انك لا تستشعر الملل وأنت تنغمس في أحاديث المقاتل الفلسطيني الذي ترك أهله في الكويت ليلتحق بالثورة الفلسطينية.
وبعد أن عانق حلمه والتحق بفصيل 43 بقيادة أبو إياد (صلاح خلف) الذي اغتيل في تونس عام 1991، لم يهمله الزمن طويلا لتساقط رصاصة قنّاص في رقبته حينما كان في مهمة لتأمين مرور الراحل ياسر عرفات.
بعد سنتين من التحاقه من قوات الثورة الفلسطينية، دفنت الرصاصة حلمه حيا وخفت فصلا جديدا في حياته انقطع فيه عن العالم الذي لا يصافح بعض تفاصيله إلا عبر الهاتف الجوال وجهاز التحكم في التلفاز وحكايات “وليد” ورفاق الثورة.
وبين أحلام المقاتل الذي لا يرمي المنديل وأحلام رفيقه في المستشفى، يتماهى الماضي والحاضر وتبتسم أبعاد كثيرة للفيلم تراوح بين الاجتماعي والاقتصادي والسياسي وتنتهي كلها إلى الإنساني.
وعلاقة “إبراهيم” و “وليد” عصية على التصنيف، وعلى أعتابها تتناثر عديد المعاني والرسائل، ولعل أصعب اللحظات تلك التي يغادر فيها “وليد” ليزور عائلته في مصر، حينها فقط يمكن أن يرتسم الانكسار في عيني “إبراهيم”.
رابط قوي يجمعهما حتى أن “وليد” اختار البقاء إلى جانب “إبراهيم” على أن يكون حاضرا في ولادة ابنه الذي انتظره رغم أنه يحمل في قلبه بعض الحزن من ردة فعل “إبراهيم” حينما طلب منه أن يمدد في فترة بقائه في مصر.
هذا الوصل بينهما لم تقطعه إلا الموت التي اختارت رحيل “وليد” إلى أهله لتزوره حينما غادر غرفته بالمستشفى لأول مرة بعد 14 سنة من أجل تطهير غرفها ولم يعد إليها أبدا.
ومن يشاهد الفيلم، لن يخطر بباله أن “إبراهيم” سيغادر هذه الحياة في المراحل الأخيرة للتصوير، حتى أن الحديث عن وفاته جاء خاطفا وكأن المخرجة نفسها لم تستوعب الأمر حينها.
وان رحل “إبراهيم” فان ذكراه ستظل محفورة عبر السينما التي وجدت لتتحدى الموت وتخلد الحياة بتفاصيلها الحلوة والمرة، وهاهي مرة أخرى تصيب الهدف وتوثق لحياة مقاتل لا يشبه إلا سيل الأمل المتدفق داخله.