في اليوم العالمي للتوحد: السينما التونسية تُعيد صياغة الفهم الإنساني

You are currently viewing في اليوم العالمي للتوحد: السينما التونسية تُعيد صياغة الفهم الإنساني

في اليوم العالمي للتوحد: السينما التونسية تُعيد صياغة الفهم الإنساني

  • Post category:أخبار

إنها السينما، ذلك الفن القادر على الغوص في أعمق القضايا الإنسانية دون أن يكون وعظيا، والمتمكن من كشف المسكوت عنه دون أن يفقد سحره. بين الصورة والكلمة، بين الصمت والصوت، تنبع قوة الفيلم في طرح الأسئلة أكثر مما يقدم الإجابات. لطالما أثبت هذا الفن قدرته على تجسيد القضايا الإنسانية المعقدة وإيصال رسائل عميقة للمجتمعات. ولعل من أبرز هذه القضايا المطروحة تبرز حكايات الطفولة كموضوع مركزي في اهتمام السينما العالمية والعربية. ومع تعدد التحديات التي تواجه الأطفال، يُعد التوحد واحدا من أكثر هذه المواضيع حساسية وأهمية، مما يستدعي منا النظر بعمق إلى تأثيره على الأفراد والمجتمع ككل.وهل
يصادف اليوم، الثاني من أفريل اليوم العالمي للتوحّد، وهو مناسبة تذكّرنا بضرورة تسليط الضوء على هذا الموضوع الذي يحتاج إلى فهم ووعي أكبر. هنا، يتبادر إلى الذهن سؤال مهم: كيف عالجت السينما التونسية قضية التوحد؟ استطاعت أن تقدم رؤية متجددة بعيدا عن الصور النمطية المألوفة؟

في هذا السياق، يبرز فيلم “في عينيا” للمخرج نجيب بالقاضي
كنموذج لطرح سينمائي مختلف، لا يقتصر على نقل المعاناة، بل يسعى إلى مساءلة علاقتنا بالاختلاف وتقديم رؤية أعمق حول مفهوم الأبوّة والمجتمع
فما موقع السينما التونسية من قضية التوحّد؟ وكيف استطاع نجيب بالقاضي، من خلال فيلمه “في عينيا”، أن يطرح هذه الإشكالية بعيدا عن النمطية والاستجداء العاطفي؟

الاختلاف: عبء أم ثروة؟
يسرد الفيلم قصة لطفي (نضال السعدي)، الأب الذي هرب إلى فرنسا، تاركا وراءه زوجته وابنه المصاب بالتوحّد، لكنه يجد نفسه مضطرا للعودة إلى تونس عندما تمر الأم بأزمة صحية. أمام هذه العودة القسرية، يجد الأب نفسه في مواجهة مع ابنه، مع ماضيه، ومع أبوّته المؤجلة.
منذ المشاهد الأولى، يضع الفيلم المشاهد أمام سؤال محوري: هل يُنظر إلى الاختلاف كعبء أم كقيمة مضافة؟ لطفي، كأب، يواجه صعوبة في استيعاب حالة ابنه، ليس فقط بسبب جهله بها، ولكن لأنه، ككثيرين، يرى الأبناء امتدادا له، وليس ذواتا مستقلة. هنا يفتح الفيلم باب النقاش حول كيفية تعامل المجتمعات مع المختلف، ليس فقط على مستوى الأفراد، بل على مستوى الثقافة السائدة التي تكرّس نماذج جاهزة للقبول والرفض.

تكشف العلاقة بين الأب والابن عن صراعات داخلية عميقة، حيث يسعى لطفي لفهم ابنه في ظل جهل وعدم تقبل المجتمع. الفيلم ينقل رحلة الأب من النفور إلى الفهم، مما يسلط الضوء على ضرورة الوعي بتجارب الأطفال المصابين بالتوحد، والبحث عن طرق جديدة للتواصل معهم. يبرز الفيلم أيضًا أهمية قبول الاختلاف كجزء من الحياة، حيث يُظهر أن التوحد ليس مجرد حالة طبية، بل هو اختلاف يحتاج إلى تقدير واحتواء.

تُعد شخصية الطفل يوسف (إدريس الخروبي) في “في عينيا” محورية، حيث تدفع الأحداث وتؤثر على مسار القصة. منذ اللحظات الأولى، يظهر بطلنا الصغير كطفل هائج، يميل إلى الصراخ والعنف، أو “طفل مهبول” كما تصفه جدته (منى نور الدين)، مما يعكس الصعوبات التي يواجهها في التعبير عن مشاعره وفهمه للعالم من حوله.

لكن مع تطور الأحداث، يتضح أن “يوسف” يمتلك ذكاء فائقا وقدرات مدهشة تفوق الكثير من الأطفال العاديين. فهو طفل مختلف، يرى العالم من منظور خاص، يتمتع بشغف كبير بالألوان والأضواء. يظهر الفيلم كيف أن التعامل الصحيح مع هذه الفئة كن الأطفال يمكن أن يفتح أمامهم آفاقا جديدة، حيث يبدأ الأب “لطفي” في التعرف على مواهبه واهتماماته الحقيقية. من خلال صبره ورعايته، يتمكن لطفي من اكتشاف عمق شخصية ابنه وتقدير اختلافه كميزة وليس كعيب.

فيلم… وما بعد ذلك؟

يشير الفيلم بطريقة غير مباشرة إلى ضرورة النظر إلى هؤلاء الأطفال كأفراد ذوي قدرات خاصة، يحتاجون إلى فهم ورعاية ودعم مناسبين. بدلا من اعتبارهم عبئا، ينبغي أن يُنظر إليهم كأشخاص مبدعين يتمتعون برؤى مختلفة للعالم، مما يستدعي من العائلات البحث عن أساليب جديدة للتواصل مع أبنائهم.

كما لم يغفل “بالقاضي” إلى بسط حلول عملية، حيث يعرض كيف يمكن للأسرة أن تتكيف مع احتياجات الطفل المتوحد، وكيف أن التفاهم والتعاطف يمكن أن يساعد في خلق بيئة آمنة ومحفزة.
يمتاز “في عينيا” بأسلوب بصري يتجاوز الحوار التقليدي، إذ يعتمد على قوة الصورة والإيحاء لنقل المشاعر والصراعات الداخلية. حركة الكاميرا المضطربة تعكس قلق الأب، بينما تُظهر اللقطات القريبة التوتر والانفصال بينه وبين ابنه. الفيلم لا يعتمد على المونولوجات المطولة، بل يترك للصمت والتفاصيل الصغيرة دورًا في إيصال العمق العاطفي.
لا يقدّم “في عينيا” التوحّد كحالة تستوجب الشفقة، بل كاختلاف يحتاج إلى فهم واحتواء. الأب ليس مجرد شخصية سلبية، بل صورة معقدة تعكس مجتمعات تعاني من صعوبة تقبّل غير المألوف. الفيلم لا يُسقط أحكامًا جاهزة، بل يضع المشاهد في مواجهة تساؤلاته الخاصة حول مفاهيم الأبوة، القبول، والتعايش مع المختلف.

في نهاية المطاف، يُحسب لنجيب بالقاضي تقديمه لفيلم يخرج عن السائد، لا فقط لأنه طرح موضوعا مهما، بل لأنه فعل ذلك بدهاء سينمائي يفتح أفقا جديدا للنقاش ويؤكد على ضرورة قبول الاختلاف كجزء طبيعي من الحياة.