فيلم “ثنية عيشة”: رحلة للتحرر من قيود مجتمع ذكوري

You are currently viewing فيلم “ثنية عيشة”: رحلة للتحرر من قيود مجتمع ذكوري

فيلم “ثنية عيشة”: رحلة للتحرر من قيود مجتمع ذكوري

في عالم السينما، يبقى الفن وسيلة نافذة لاستكشاف قضايا إنسانية تتجاوز حدود الشاشة، حيث يعكس المخرجون من خلال عدساتهم واقعا مليئا بالتحديات والأحلام المجهضة. وتأتي الأفلام التي تتناول قضايا المرأة لتكون مرآة لصراعاتها اليومية في مجتمعات لا تزال تحكمها عقلية أبوية تُقيد خطواتها، وتُفرض عليها أدوارا تتنافى مع طموحاتها ورغبتها العميقة في التحرر. في هذا السياق، يبرز فيلم “ثنية عيشة” للمخرجة التونسية سلمى الهبي كعمل فني يتناول بحساسية مسألة الصراع الذي تخوضه المرأة بحثا عن هويتها وحريتها. عُرض الفيلم في افتتاح النسخة الخامسة من المهرجان الدولي لفيلم المرأة “بعيونهن”، ليتصدر النقاش حول قضايا العنف المنزلي وتهميش المرأة الريفية.

حلم التحرر

منذ اللحظة الأولى، يأسر الفيلم المتفرج بمشهد هروب “عائشة” بين الأنفاس المتسارعة وركضها المضطرب. هذا الهروب الذي يتجاوز الفعل الجسدي، يدفع بالمشاهد للتساؤل: هل هو هروب حقيقي من واقع مرير ينهش جسدها وروحها؟ أم ربما مجرد حلم يائس يراودها أثناء نومها؟ هذا الفرار الرمزي قد يكون أبلغ من مجرد مشهد عابر، إنه تأمل في الهروب من القيود المجتمعية والعائلية التي تثقل كاهل النساء.

في حوار مكثف بين الأم (لبنى نعمان) وابنتها عائشة (اشراق مطر)، نلمس الجذور العميقة للتمييز المتجذر. “العار أطول من الأعمار”، تقول الأم، ملقية بظل ثقيل من الأعراف التي تحكم حياة النساء. في مجتمعات كهذه، يعتبر الرجل “سترة المرأة”، فيما تدفع النساء إلى الهامش، مُرغمات على التحمل والخضوع. الأم ترى في الصبر فضيلة، وتحمل ابنتها مسؤولية دوام العلاقة حتى في ظل العنف، بينما لا يمس الرجل، فهو في نظرها محور الاستقرار.

يكشف الفيلم عن العقليات المتوارثة بأسلوب سينمائي يجمع بين البساطة والعمق. العنف المنزلي ليس مجرد حدث فردي، بل هو جزء من واقع يومي تحكمه العادات والتقاليد، ويصبح الضرب حالة “عادية” طالما المجتمع لا يلقي اللوم على الجاني بل الضحية. الحوار بين الأم وابنتها يعكس هذا الصدام بين جيلين، حيث تتعلق الأم بأفكار الماضي، ولا تمل من تكرار جمل متشابهة مثل “بالك صار كان عليك والا انت خير مني؟… أنا قد ما ضربني بوك ما طلقتوش”،  بينما تبحث عائشة عن طريق للتحرر من هذه السلسلة القاسية.

تأتي شخصية الممثلة الراحلة “ريم الحمروني” كعلامة فارقة في الفيلم، مجسدة المرأة التي تمردت على القهر. فهي تعكس تناقضا مع بقية النساء في الفيلم، إذ تصر على كسب قوتها بكرامة وترفض الخضوع لابتزاز زوجها بعد أن تجرأ على ضربها. تحمل هذه الشخصية رمزية عميقة، حيث لا تحقق ذاتها إلا من خلال كفاحها وعملها. يتجلى ذلك عندما تخاطب إحدى زميلاتها قائلة: “المرأة ما ليها كان ذراعها”، مما يعبر عن قوة الإرادة واستقلالية المرأة في سعيها لكسر الصورة النمطية التي يفرضها المجتمع عليها.

يستخدم “ثنية عيشة” السرد السينمائي بأبعاده الجمالية لطرح قضايا شائكة مثل العنف المنزلي، الفقر، والتهميش الاجتماعي، في قالب يمزج بين الحلم والواقع. عائشة، في بحثها عن الحرية، لا تهرب فقط من زوجها أو عائلتها، بل من تاريخ طويل من القيود التي ترهقها. الفيلم يصور رغبتها العميقة في الانعتاق واستعادة ذاتها، حتى لو كانت الطريق نحو ذلك مملوءة بالعقبات.

نهاية الطريق

ينتهي الفيلم بمشهد تراجيدي درامي يأتي كتكريم للعاملات الفلاحيات التونسيات اللاتي فقدن حياتهن في حادث مأساوي أثناء عودتهن من العمل على متن شاحنة. هذا المشهد المؤثر يترك أثره في نفس المشاهد، حيث تتناثر الدماء على الأرض، لتكون شاهدا على المعاناة التي تتحملها النساء في سياق حياتهن اليومية. يسلط المشهد الضوء على التضحيات التي قدّمنها في سبيل كسب لقمة العيش، مما يجعل النهاية تتجاوز حدود السرد لتتحول إلى دعوة للتفكير في واقع قاسي يتطلب تغييرا حقيقيا.

بأسلوب مؤثر وصادق، يأخذنا الفيلم في رحلة تعبير عن معاناة النساء في مجتمعات تقليدية، لكن دون فقدان الأمل في الانعتاق. ‘ثنية عيشة’ هو فيلم عن كل امرأة تُحاصرها القيود الاجتماعية، لكنه أيضا قصة كل امرأة تُصر على البحث عن حريتها وتحدي المعايير المفروضة عليها.

لا يمكن الحديث عن “ثنية عيشة” دون التوقف عند الموسيقى التصويرية التي أبدع في تأليفها الموسيقي التونسي ربيع الزموري. من خلال ألحانه، استطاع الزموري أن يترجم آلام الممثلات وتجسيد الأفكار المكنونة في ذهن المخرجة. كل نغمة حملت في طياتها الأصالة التونسية ونبض التراث، وكأنها همسة من تاريخ البلاد تروي قصصا دفينة عبر الأجيال. الموسيقى التونسية هنا لم تكن مجرد خلفية صوتية، بل كانت روحا تلامس الوجدان، فتجعلنا نغوص في عمق التجربة السينمائية بكل تفاصيلها.

“ثنية عيشة” هو صرخة حرة تُطلقها كل امرأة تسعى إلى كسر قيود مجتمع يمارس سلطته عليها من خلال العادات والتقاليد. عبر هذه الرحلة المريرة، تُبرز المخرجة رؤية سينمائية ناضجة، تُمزج فيها براءة الطفولة بمرارة الحياة الزوجية، وتُظهر في كل لحظة تفاصيل من حياة النساء اللواتي يجدن أنفسهن أسيرات لنظام اجتماعي أبوي، يصعب عليهن الفكاك منه.

عبير العقربي