فلسطين تكتب نفسها في الظلّ، على هامش العالم، حيث تزرع الحكايات بين رصيف وقذيفة، وتروى الحياة كما لو كانت قصيدة تتنفّس في فراغ محاصر. حين تعبر السينما هذا المكان، لا تعود فنا محايدا، تتحوّل إلى أثر وإلى صورة تقاوم زوالها. في قلب العتمة، تولد مشاهد تضيء بوجوه أطفئت فيها الطفولة، لكنها لم تفقد دهشتها.
لا أعثر على نفسي في السينما كما أفعل حين يمرّ مشهدٌ فلسطيني. ثمّة شيء ينكسر داخلي ثم يتماسك. مشاهد تبني جسرا هشا بين الألم والإيمان، بين العزلة الجماعية والإصرار على الحضور. صوت الأمّهات، أنفاس المراهقين، خطوات الأطفال في الأزقّة، نظرة الجنود، وخطوط الجدار، كلّها تصير لغة جديدة للسينما، لغة لا تنطق، بل تجربة تعاش.
وحين تلتقي هذه السينما بفضاء مخصص للطفولة والشباب، كما في مهرجان سوسة الدولي لفيلم الطفولة والشباب في دورته الرابعة عشرة، فإنّ الأسئلة تكتسب وجها أكثر عمقا: كيف يرى جيلٌ جديد فلسطين لأول مرة من خلال شاشة؟ وكيف يُمكن للصورة أن تنقُل ذاكرة شعب بأكمله إلى قلب متفرّج صغير، لم يمسك بعد بخريطة العالم؟
في هذا السياق، يحضر الفيلم الفلسطيني أحلام عابرة للمخرج رشيد مشهراوي الذي يشارك في المسابقة الرسمية للمهرجان، كصوت يحمل مسؤولية سرد تفاصيل حياة تشبه الخيال في واقعها، وتُشبهنا في هشاشتنا، في حنيننا، وفي محاولتنا الدائمة لفهم ما لا يُفهم.
يروي الفيلم حكاية سامي، الطفل الفلسطيني ذو الاثني عشر عاما، الذي ينطلق في رحلة طويلة عبر الأرض المحتلة، بحثا عن حمامة زاجلة كانت تعيش على سطح منزله في مخيم قلنديا. مدفوعا بإيمانه بأن الطائر عاد إلى موطنه الأصلي، يشق سامي طريقه من بيت لحم مرورا بالقدس الشرقية وصولا إلى مدينة حيفا، برفقة خاله وابنة خاله. يوثّق الفيلم هذه الرحلة بعيون طفل يحاول الإمساك بالحلم وسط واقع مفكك، ويكشف من خلال التفاصيل اليومية خريطة وطن يهرب من بين اليدين، وحدودا تحاصر حتى أبسط الأمنيات.
فنّ يُقاوم بصمت
يبدأ الفيلم برسم صورة للحياة اليومية لشخصيات فلسطينية تُحاول التكيف مع قسوة الظروف، حيث تتجلى المعاناة بشكل عميق، ولكن دون الإغراق في اليأس. تظهر الشخصية الرئيسية، “سامي”، كرمز للبحث المستمر عن الأمل في ظل الاغتراب، وهو عنصر متكرر في السينما الفلسطينية. لعل ذلك ما جعلني أتذكر بشكل خاص فيلم “حكاية الجواهر الثلاث” لميشيل خليفي. إذ يسرد العمل رحلة طفل يبحث عن الجواهر الثلاث ليهديها لحبيبته، ليكتشف الجمهور في النهاية أن هذه الجواهر ليست سوى رموز للهوية الفلسطينية ذاتها. مما يعكس رغبة مختلف المخرجين، بما فيهم مشهراوي، في الدفاع بشدة عن هويتهم الفلسطينية عبر سرد قصص إنسانية تعبّر عن المعاناة والأمل.
مشهد البداية حيث يختبر سامي غياب والده يضع المشاهد في قلب تجربة الفقدان، ما يجعلنا نتعاطف مع شخصيات الفيلم منذ اللحظة الأولى. تلتقط كاميرا مشهراوي تفاصيل الحياة اليومية من خلال لقطات طويلة تجعلك تشعر بأنك جزء من هذا العالم. أما لتصوير الأماكن، فقد اعتمد المخرج الخلفيات الباهتة لتجسيد الصراع الداخلي، مما يعكس الحالة النفسية للشخصيات وبجعل تجاربهم أكثر صدقا وتأثيرا.
لا يصرخ الفيلم، لا يرفع شعارات، بل يستعير السخرية والمجاز ليقول الكثير. ففي أحد المشاهد، يحكي أحد الشخصيات قصة عبثية عن مارد يخرج من مصباح سحري ويسأل رجلا فلسطينيا عن أمنيته، فيرد الأخير: “بدي دولة فلسطينية حرّة عاصمتها القدس”، فينفجر المارد ضاحكا في وجهه. المفارقة هنا لا تحتاج إلى تأويل، هي تلخيص مرير لحال شعب باتت أبسط أحلامه محطّ سخرية من العالم أو ربما أمنية مستحيلة تستحق معجزة لتتحقق.
وفي الخلفية، لا تغيب الأغنية الوطنية، بل تصاحب مرور جندية إسرائيلية بلقطة تحمل بين سطورها استفزازًا عميقًا: “أنا دمي فلسطيني”… وكأنّ المخرج يوظّف الأغنية، والمشهد، واللغة، والجماد ليحوّل كل عنصر إلى أداة مقاومة.
دراما طريق بلا ذروة
يتجنّب مشهراوي التصعيد الدرامي التقليدي. لا ذروة بمعناها الكلاسيكي، بل سيل بصري سلس، أحداث تتوالى كما الحياة تحت الاحتلال: مفاجِئة، عابرة، مؤلمة أحيانا، وأحيانا عبثية. رحلة اليوم الواحد تتّسع لتحتوي ذاكرة أمة، وكأنّ المخرج يوثّق ما تبقى من هوية مهدّدة بالإزاحة.
يقدم الفيلم أيضا تساؤلات حول الهوية الفلسطينية، حيث تتردد فكرة “هل يبقى الإنسان فلسطينيا في المنفى القسري؟” من خلال رحلة سامي للعثور على عمه، نشهد التحديات المادية والنفسية التي يواجهها الفلسطينيون يوميا، مما يجعل الفيلم يتجاوز القصة الفردية إلى معالجة القضايا الكبرى للهوية والانتماء. بينما يسعى سامي للبحث عن والده، يتجلى البحث عن الهوية بشكل أعمق، إذ أن العلاقات الأسرية والذكريات تلعب دورا مركزيا في بناء الذات.
من خلال مشهد اننقال بطلنا الصغير بين المدن الفلسطينية، يبرز مشهراوي التناقضات التي يعيشها الفلسطينيون، فكل نقطة تفتيش تمثل عقبة جديدة، وكل لقاء مع شخصية أخرى يظهر مدى تشابك الصراعات. ولكن مع تواتر هذه المشاهد، لا تكف لحظات الأمل عن الظهور ولعل ذلك ما يجعل الفيلم أكثر توازنا.
ختاما، يضع فيلم “أحلام عابرة” على عاتقنا حمل التساؤل حول المعاناة المستمرة التي يعيشها الشعب الفلسطيني، خاصة في ظل الأحداث الدامية التي بدأت في السابع من أكتوبر 2023، والتي لم تنتهي حتى اليوم. في وقت يذهب الأطفال ضحية للحروب ويتعرض الإنسان للاحتضار وتتفتت الهوية الفلسطينية في خضم هذه الأزمات المتتالية.
إلى متى ستستمر هذه المعاناة؟ يظل هذا السؤال يتكرر في ذهني كمشاهدة مع كل عرض لفيلم فلسطيني، ولا تزال إجابته ضبابية.
مقال: عبير العقربي