“علاش لازم نموتوا باش نجمو نعيشوا؟” هو سؤال ظل يدور في ذهني طوال عرض فيلم “عايشة” لمهدي البرصاوي، ضمن الدورة الخامسة والثلاثين لأيام قرطاج السينمائية. هذه الجملة لم تكن مجرد تأمل عابر، بل كانت محورا لفهم مسار حياة الشخصية الرئيسية، التي وجدت نفسها على حافة الموت لتعيد اكتشاف معنى الحياة. بين ظلال الموت ونور الحياة، يصوغ البرصاوي تجربة سينمائية تتجاوز حدود الدراما لتغوص في عمق الأسئلة الإنسانية الكبرى. الفيلم، الذي يشارك في المسابقة الرسمية للأفلام الروائية الطويلة، يمزج بين الدراما الاجتماعية والإثارة النفسية، ليأخذنا في رحلة استثنائية تكشف أبعادا جديدة للسينما التونسية.
من الجنوب إلى العاصمة: هروب نحو المجهول
تبدأ القصة في توزر، المدينة الصحراوية التي تحتضن بطلتنا “آية”، الشابة التي تعمل كخادمة غرف في أحد الفنادق الفاخرة، متحملة أعباء ديون عائلتها منذ طفولتها. بين الروتين القاسي وضغوط المجتمع، تجد نفسها محاصرة بمستقبل مظلم يتجلى في زواج قسري من رجل يكبرها سنا.
تظهر تونس في شخصية “آية” كمدينة نابضة بالحياة ومتعددة الأوجه. البرصاوي يستغل هذا التناقض ليخلق خلفية درامية غنية تعكس الصراع الداخلي للشخصية. العاصمة، التي تعد رمزا للحرية والحلم، تصبح أيضا مسرحا للفساد والعنف الذي يهدد استقرار البطلة.
حياة تنبثق من رماد الفناء
في الفيلم نجد أنفسنا أمام ثنائية الحياة والموت في تجلياتها الأكثر حدة. تشهد الحبكة الدامية في الفيلم ذروتها بمشهد مدو: حادث مروري مروع في طرقات الجنوب التونسي الصحراوية. هنا، تنطلق رحلة آية، العاملة البسيطة التي عاشت حياة هامشية، لترى في هذا الحادث فرصة ولادة جديدة. في عالم ظنها ميتة، تقرر أن تتقمص هوية جديدة، وأن تبدأ حياة من الصفر في العاصمة تونس.
تصطدم آية بواقع قاس، فهي بلا هوية أو أصدقاء، وتجد نفسها عالقة في شبكة معقدة من الجرائم والفساد. الانتقال من البرقع إلى التنورات القصيرة يعكس تحررها الظاهري، لكنه يكشف في الوقت ذاته عن هشاشة هذا التحرر في وجه واقع جديد أشد قسوة.
يمتاز الفيلم بمستوى تقني مميز. التصوير السينمائي، الذي يمزج بين المساحات المفتوحة واللقطات الضيقة، يعبر عن رحلة البطلة من القيود إلى الحرية الوهمية. الألوان المتدرجة بين الحارة والباردة تعكس التحولات العاطفية والمكانية، فيما تلعب الكاميرا دورا رئيسيا في التقاط تعابير وجه البطلة، مما يجعل المشاهد يشعر وكأنه شريك في رحلتها.
تعمل الموسيقى التصويرية كخلفية مؤثرة تضيف للدراما دون أن تسيطر عليها، بينما يتميز المونتاج بإيقاعه المشدود الذي يحافظ على التوتر والإثارة.
عايشة؟
في نهاية رحلتها المأساوية، تجد البطلة خلاصها في تبني هوية جديدة تنقذها من ظلام ماضيها. بين خيارات تمثل مصائر مختلفة لنساء عايشن في دوامة الفقدان، تختار هوية فتاة تدعى “عايشة”. هذا الاختيار يحمل رمزية عميقة. فهو تعبير عن تمسكها بالحياة وإصرارها على النجاة. عبر هذا الاسم، ترفض البطلة الاستسلام للموت أو الضياع، وتعيد تعريف ذاتها ككيان جديد ينبض بالحياة، في مواجهة كل ما حاول كسرها.
مع “عائشة”، يثبت مهدي البرصاوي مرة أخرى أنه من أبرز الأصوات السينمائية التونسية المعاصرة. بفضل الأداء البارز لفاطمة صفر والتقنيات السينمائية المبتكرة، يصبح “عائشة” تجربة سينمائية عميقة تترك أثرا لا يُنسى.
هذا الفيلم ليس فقط شهادة على تطور السينما التونسية، بل هو دعوة للتأمل في قيمة الحرية والإنسانية في عالم مليء بالتناقضات.