تحتل السينما العربية مكانة خاصة في قلوب الجماهير، حيث تسعى دوما لتقديم قصص تعكس واقع الإنسان ومشاعره المعقدة، وهي في أغلب الأحيان تحمل رسائل عميقة تتجاوز حدود الزمان والمكان. من خلال المزج بين الفن والفلسفة، استطاعت السينما أن تتحول إلى مرآة للنفس البشرية، تفتح أمام المشاهد نوافذ على عوالم داخلية يعيشها ولكنه قد لا يدركها. في هذا السياق، تأتي أفلام مثل “رحلة 404” لتجسد هذا التوجه، حيث يجمع الفيلم بين الأسئلة الوجودية والتجربة الإنسانية، مقدما قصة عن الصراع الداخلي والخلاص الروحي.
في الدورة الثانية عشرة لمهرجان وهران الدولي للفيلم العربي، تم تقديم فيلم “رحلة 404” الذي جذب الأنظار بتناوله لموضوعات عميقة تدور حول الذات والتصالح مع الماضي. الفيلم من إخراج هاني خليفة وبطولة منى زكي، ويعتبر إضافة جديدة إلى السينما المصرية التي لطالما لم تبخل عن تقديم قصص ذات بعد فلسفي وإنساني.
تدور حبكة الفيلم حول غادة (منى زكي)، المرأة المصرية التي تستعد للسفر إلى مكة لأداء فريضة الحج، وهي محاولة للتكفير عن ذنوب ماضيها. ومع ذلك، تتعرض غادة لموقف طارئ يتطلب منها مبلغا كبيرا من المال، ما يجبرها على العودة إلى أشخاص من ماضيها، كانوا جزءا من حياة اختارت الهروب منها. هذا الالتقاء بالماضي يحمل الفيلم إلى مستويات عميقة من التحليل النفسي، حيث يتعامل مع فكرة الصراع الداخلي، وتأثير الماضي على الحاضر، وكيفية مواجهة الأخطاء القديمة دون الإنكار.
استخدم المخرج هاني خليفة أدواته الاخراجية الخاصة لإيصال العمق النفسي لشخصية غادة، مستعينا بزوايا تصوير تعكس حالتها النفسية بين الاستقرار النسبي الذي تعيشه والحالة المتقلبة في الداخل. تبرز تقنيات الفلاشباك (الاسترجاع) كأداة أساسية في الفصل بين الماضي والحاضر، حيث يستعين المخرج بألوان باهتة وأجواء مظلمة ليشير إلى اضطرابات غادة الداخلية، في مقابل لقطات أكثر سطوعا تعكس لحظات السلام الزائف.
يركز الفيلم على ثنائية الضوء والظل ليس فقط في الإطار البصري، بل أيضا في بناء الشخصية. غادة التي تبدو قوية ومستقرة ظاهريا، تحمل في داخلها صراعات مع ذنب الماضي والقرارات الخاطئة التي اتخذتها. هنا تأتي قدرة الفيلم على ربط المشاهد بشخصية معقدة تشبه إلى حد كبير النفس البشرية في تعقيداتها وأخطائها.
لا يمكن للمشاهد أن يتجاوز أداء الممثلة منى زكي، وهي تتقمص شخصية غادة بتفاصيلها النفسية والوجدانية. قدرتها على التلاعب بالتعبيرات الدقيقة، خاصة في المشاهد الصامتة، أضافت بعدا جديدا للشخصية، حيث يتحدث الصمت هنا بصوت عال عن مشاعر القلق والخوف من المجهول. كذلك، استطاع محمد فراج ومحمد ممدوح، رغم قلة ظهورهما، أن يقدما أداء لافتا يعزز من ثقل الفيلم.
“رحلة 404” هو رحلة وجودية تعكس الصراع الإنساني الدائم مع الذنب، والخوف من العقاب، والرغبة في الإصلاح. الفيلم يطرح أسئلة تتعلق بالحياة والموت، والخلاص الذاتي، وكيف يمكن للفرد أن يجد طريقه إلى النور بعد غرقه في الظلام.
القصة تأخذ المشاهد في رحلة عبر مشاعر غادة المتضاربة بين الرغبة في الإصلاح والخوف من المواجهة، بين الهروب من الماضي والعودة إليه. وهذا ما يجعل الفيلم تجربة سينمائية غنية وعميقة، تتطلب من المشاهد التفاعل معها على مستويات متعددة.
“رحلة 404” هو تجربة سينمائية فريدة تعكس تعقيدات النفس البشرية وصراعاتها الداخلية، وفي الوقت ذاته، يقدم رسالة عميقة حول المغفرة والتصالح مع الذات. هاني خليفة استطاع من خلال هذا العمل أن عملا فنيا يلامس القلوب ويثير العقول، ليبقى “رحلة 404” ضمن تلك الأعمال التي تدفعنا إلى التفكير في حياتنا وقراراتنا، وكيف يمكن لنا أن نحقق السلام الداخلي.
عبير العقربي