سمعت الكثير عن فيلم “حرقة” للمخرج “لطفي ناثان”،فحالما تم الإعلان عن العرض قبل الأول في تونس، اتجهت إلى قاعة السينما محملة بكم من المشاعر المتضاربة، بين التشويق و الرغبة في الاكتشاف و الخوف من الشعور بخيبة الأمل.
دخلت القاعة لأجد جمهورا غفيرا و متنوعا يشاركني نفس المكان و ربما نفس المشاعر…جلب انتباهي تعابير وجوه الحاضرين و حماسهم لمشاهدة الفيلم، و لعلي مثلهم، خاصة عقب فوزه بجائزة أفضل ممثل والتي عادت إلى الشاب “آدم بسة” في مهرجان “كان” السينمائي الدولي و جائزة أفضل إخراج من مهرجان البحر الأحمر. بالإضافة إلى قصة الفيلم المستوحاة من أحداث الثورة وانتحار بائع الخضار المتجول أصيل ولاية سيدي بوزيد “محمد البوعزيزي”، وشهادة عديد النقاد بقدرة المخرج على تصوير معاناة التونسيين وتسليط الضوء على مواضيع شائكة. و لكن لعل أكثر ما شد انتباهي هو عنوان الفيلم في حد ذاته، “حرقة”…كلمة قد تحمل في طياتها عديد المعاني التي نتبينها في حياة البطل “علي”، فهل تتجلى من خلال سعيه لمغادرة حدود البلاد عله يجد سبيلا ليحقق أحلاما قطعت معها أرض وطنه؟ أم أنها تتمثل في حرقة مادية تلتهم فيها النار جسده؟ أم هي حُرْقَةٌ معنوية تصور معاناة بطلنا والتي قد تظهر على وجهه ولغة جسده… اعترت ذهني عديد التساؤلات بخصوص هذا الفيلم، لم أجد لها إجابات إلا أثناء العرض… ساعة ونصف من المشاهدة كانت كفيلة لأندمج مع شخصيات الفيلم وقصته .
شعور باليأس في تاريخ مظلم يعيد نفسه
تدور أحداث الفيلم بعد 10 سنوات من اندلاع الثورة في تونس، ولا يخفى على المتفرج ملامح الشعب والوطن التي غيرها الزمن وزادها حدة و حزنا وربما غضبا. ولعل ذلك ما يظهر بصورة أوضح من خلال ملامح وجه البطل “علي”، الشاب التونسي الذي يتخذ لنفسه حياة مستقلة عن عائلته ، فيغادر منزله ليسكن مكانا غير مكتمل و مهجور، ويتخذ من بيع البنزين المهرب ملاذا له لكسب ما يكفيه من مال يدخره ليدفع تكاليف هجرته غير النظامية. ولكن لا يكفي هذا الفتى ما يعيشه من ظروف صعبة ليجد نفسه مضطرا للتعامل بصفة مباشرة مع الشرطة، ففي كل صباح يخرج “علي” محملا بالبنزين ليبيعه على قارعة الطريق للسيارات المارة، و لا ينتهي يومه إلا بجشع الشرطة التي تستولي على أرباحه بحجة مخالفته للقانون. فهنا يعود بنا سيناريو الفيلم إلى الشعارات التي رفعها الشعب التونسي إبان الثورة ومعاناته اللامتناهية مع استغلال الشرطة لمناصبهم وظاهرة “الرشوة” المتكرة.
هي لقطات عديدة في الفيلم، تسلم برسالة واحدة وهي أن التاريخ في تونس يعيد نفسه، وترسم الصورة كاملة في ذهن المشاهد خاصة عند نهاية الفيلم لتكتشف أن القصة مألوفة في واقعنا المعيشي.
صرخة درامية تسرد أعباء اجتماعية و عائلية
تواصل الظروف الصعبة استنزاف طاقة بطلنا، فتجتمع المحن على تنوعها أمامه،خاصة بعد وفاة والده، ليجد نفسه يتخبط بين مسؤولية حماية أختيه ورغبته الملحة في مغادرة الوطن ,وكأن ذلك لا يكفي ليستيقظ ذات يوم ويكتشف أن أباه ترك ديونا مخلدة بذمته، فإما أن تدفع أو أن يحجر المصرف على منزلهم. خبر كان كفيلا بأن يؤثر على حياة “علي” و شخصيته، وعلى مسار أحداث القصة التي تتوارى لتكشف لنا عن علاقة البطل بأسرته التي تبدو ظاهريا سطحية بعض الشيء، لكن ما إن تصوّب تركيزك على بعض التفاصيل، يتبين لك عمق الارتباط العائلي و التضحيات التي يسعى “علي” للقيام بها تجاه أختيه.
هي التفاصيل وحدها لا غير، التي من شأنها أن تحدث فارقا في فهم الرسائل الدرامية. وإن المتأمل في مشاهد الفيلم لا يمكن أن يغض بصره عن أداء الممثل “آدم بسة”، فإن هذا الأخير نجح في أن يصعد إلى ذروة الإقناع بالتمثيل.
فينتاب المشاهد أحيانا شعور بأنه أمام مشهد واقعي لا سينمائي. إذ تمكن “ادم” من تعرية واقع تونسي ملغم بالأوجاع من خلال ملامحه و حركاته ونظراته و حتى لحظات سكوته بالإضافة إلى الأماكن والوضعيات والأحداث المألوفة التي تجبر المتفرج على الشعور بالغضب و الحزن و العطف والانتماء للأسرة والوطن في آن واحد. ومع المشهد الأخير في الفيلم، تشكلت في ذهني كافة الأجوبة للأسئلة التي دخلت محملة بها إلى قاعة السينما. هي إذا حَرَقَة و حُرْقَةٌ في آن واحد و في كافة أشكالها، لا نتبينها في قصة هذا العمل السينمائي فقط، فإن قصة “علي” ليست إلا مثالا بسيطا عن الحياة اليومية والواقعية لآلاف التونسيين.