بعد غياب سنوات…سوسة تنفض غبار الانتظار وتعيد مهرجانها الدولي لفيلم الطفولة والشباب إلى جذوره

You are currently viewing بعد غياب سنوات…سوسة تنفض غبار الانتظار وتعيد مهرجانها الدولي لفيلم الطفولة والشباب إلى جذوره

بعد غياب سنوات…سوسة تنفض غبار الانتظار وتعيد مهرجانها الدولي لفيلم الطفولة والشباب إلى جذوره

  • Post category:أخبار

بعد غياب دام قرابة ست سنوات، تعود سوسة، المدينة التي تتنفس الفن والثقافة، لاستقبال مهرجانها الدولي لفيلم الطفولة والشباب، وكأنها قد أزاحت عن كاهلها غبار الانتظار لترتدي من جديد حلة الإبداع والابتكار. هذا الحدث ليس مجرد عودة للسينما، بل هو استعادة لنبض الأمل في زمن كادت فيه أصوات الشباب أن تُغرق تحت وطأة التحديات. مع كل فيلم يُعرض، تُدشّن سوسة فصلا جديدا في السرد السينمائي، حيث يُسمح للخيال بأن يتحرر من قيوده، ويُعطى للطفولة والشباب منصة لطرح تساؤلاتهم والتعبير عن أحلامهم. هنا، في قلب هذا المهرجان، تتلاقى الأنماط الثقافية وتتفاعل الأفكار، لتظهر لنا سينما جديدة ترتكز على التجارب الإنسانية الحقيقية وتغذي عقول الأجيال الناشئة. في سوسة، كان الثامن من أفريل شاهدا حيا على قدرة السينما على تجاوز الصعاب وإعادة تشكيل الهوية الفنية للشباب.

في رحاب المسرح البلدي

في عودته المنتظرة، اختار مهرجان سوسة الدولي لفيلم الطفولة والشباب، في دورته الرابعة عشر، أن يدشن انطلاقته من قلب المسرح البلدي بسوسة أين اجتمع كل المشتاقين لهذا الفعل السينمائي، من أوفياء المهرجان وضيوفه.

في الداخل، غابت العبارات العابرة، وحضرت الرموز. احتجبت الأضواء قليلاً لتُفسح المجال للظلال كي تتكلم، وللشاشة كي تبثّ بيانها الصامت. عدٌّ تنازلي انساب على الشاشة، ترافقه صورٌ موغلة في وجع غزة، تلك المدينة الشهيدة التي نزفت على مرأى الإنسانية، فكان المشهد الافتتاحي بمثابة بيان أخلاقيّ بلغة السينما، يؤكد أن الصورة لا تكتفي بالتوثيق، بل تحمل عبء الشهادة والاحتجاج، وتستحضر الحلم في أزمنة الخذلان.

وما بين تصفيق متواصل ونشيد وطني يحبس الأنفاس، انطلق الافتتاح بتقديم من الإعلامية خولة مبروك مرحبة بجمهور ومحبي “الفيفاج” وأوفيائه. وفي لفتة إنسانية بليغة، رافقت لغة الإشارة وقائع الحفل، لتُكرّس مبدأ الفن للجميع، بلا استثناء ولا إقصاء، وترسّخ قيم الشمول والانفتاح.

وما كان لهذا الحدث أن يمرّ دون استحضار من أرسوا أساساته منذ أكثر من ثلاثة عقود. لحظة تكريم دافئة، استحضرت فيها أسماء من نحتت ملامح هذا المشروع الثقافي من دون صخب: عبد العزيز بلعيد، هشام بن سعيد، محمد خلف الله، فتحي بن ساسي، وآخرون، كانوا نواة الحلم الأولى، وتحوّلوا اليوم إلى ذاكرة جماعية تُحتفى بها.

“مسيكم بالخير”… نجيب عياد الحاضر الغائب

بهذه العبارة، التي تحمل في طيّاتها عمق المحبّة ودفء الذكرى، افتتح أيمن الجليلي، مدير المهرجان، كلمته أمام جمهور متعطّش للسينما والحياة. لم تكن تحيّته مجرّد جملة عابرة، بل نبش في الذاكرة الجماعية ليستحضر طيف المنتج السينمائي الراحل نجيب عيّاد، الذي لطالما آمن بالصورة كقوة تغيير وكفعل مقاومة.
كرّرها أيمن بصوت متهدج بالحب: “مسيّكم بالخير…”، فاهتزّ المكان بما يشبه الإجلال، كأنّ نجيب عاد ليجلس بين الصفوف، يبتسم من بعيد.
ولم يغفل الجليلي على القاء كلمة محاطة بهالة من التقدير لكل من ساهم في إحياء هذا الموعد الثقافي، متعهدا بإعادة تموضع المهرجان ضمن الخارطة السينمائية.

ولأن السينما لا تكتمل دون عين ناقدة، صعد أعضاء لجان التحكيم إلى المسرح، واضعين خارطة التقييم وملامح ما ستخوضه الأفلام من اختبارات سينمائية. ومن جانبه عبّر خالد بوزيد، عضو لجنة تحكيم مسابقة أفلام الشباب تحت سن الثلاثين، عن أهمية السينما في عصرنا الراهن، مؤكدا أنها الوسيلة التي يمكن أن تنقذنا من تبعات مواقع التواصل الاجتماعي، مشددا على دورها الاجتماعي والتثقيفي في تشكيل الوعي وتعزيز القيم الثقافية.

واختتمت الأمسية بعرض الفيلم الافتتاحي “ماتيلا”، للمخرج التونسي عبد الله يحيى، الذي استعار من الوثائقي لغته، ومن الواقع هشاشته، ومن الذاكرة التونسية تفاصيلها الصغيرة المتوارية.
“عبد الله يحيى”، ذلك المخرج الشاب الذي لا يكلّ عن نسج الشاعرية في تفاصيل كل مشهد، نجح هذا المساء في أسر قلوب المتفرجين بعملٍ يفيض إحساسا وصدقا.

لحظة الانطلاق

ما إن انطلقت عروض المسابقات الرسمية للأفلام والورشات المرافقة للمهرجان، حتى اندفع الجمهور والصحفيون بشغف لالتهام ما تيسّر من وجبات السينما، متنقلين بين القاعات، ينهلون من عالم الفن السابع بشغف لا يُروى. وفي ساحة المدينة العربي بسوسة، استقرت شاحنة “سينما تدور”، كأنها سفينة عصرية حطّت في قلب المكان، تستقبل جميع الفئات والأعمار دون استثناء. ترى العيون تتأمل هذا الكائن التكنولوجي العجيب، تقرأ ما كُتب على جوانبه، تتساءل عن مهمته وسحره، فيما يُقبل الأطفال على جذب أمهاتهم بحماس طفولي، لاكتشاف هذا العالم المتحرّك وخوض مغامرة سينمائية غير مألوفة.

في سوسة، لم تكن عودة المهرجان عادية. لقد كانت استردادا لهوية ثقافية ولتاريخ مهرجان عريق، وإعلانا رمزيا عن مقاومة النسيان. ففي زمن تتكدّس فيه الشاشات وتفقد فيه الصورة معناها، يبقى مهرجان الطفولة والشباب فضاء يُعيد الاعتبار للحلم، ويُعلّم الأجيال أن السينما ليست مجرد فن،بل حياة، وما أحوجنا الى الحياة.

عبير العقربي