حين تنطفئ أنوار القاعات وتخفت أصوات الميكروفونات، يبقى سؤال السينما في تونس معلّقًا في الهواء: ماذا تبقّى من المهرجانات؟
في بلد لطالما شكّلت فيه السينما نافذةً على الذات الجماعية ومرآةً لأسئلتها الكبرى، لم يعد الغياب الفنّي حدثًا مفاجئًا، بل تحوّل إلى قاعدةٍ تُدار بصمت قاتل. الركح مطفأ، لا لأن الفنّ غادر البلاد. بل لأن المناخ الثقافي نفسه بات طاردًا لكل مبادرة حرّة أو مشروع جماعي مستقل.
من مهرجان أيام قرطاج السينمائية، الذي كان مرآةً لهوية تونس الثقافية، إلى تظاهرات جهوية تناضل من أجل البقاء، تبدو المهرجانات اليوم كأشباحٍ لما كانت عليه: برمجات مكرّرة، ميزانيات تُدار “بالقطّارة”، وبيروقراطية تجهض كل نفس إبداعي قبل أن يُولد.
وهنا يُطرح السؤال الأهم: هل مازلنا نؤمن بالفعل الثقافي كمحرّك للمعنى؟ أم أن المهرجان تحوّل إلى واجهة بلا مضمون، صورة بلا روح، وموعد موسمي لا يترك أي أثر؟
مهرجانات في مهب الرياح
في مثل هذا الشهر من عام 2023، كانت مدينة حمّام الأنف تستعدّ
لحدث استثنائي: عودة مهرجان منارات إلى الحياة بعد سنوات من الغياب. كان الشاطئ يحتضن شاشة السينما من جديد، والناس يفرشون الرمال ببطّانيات الأمل، ينتظرون فيلمًا، فكرة، أو لحظة مشتركة تحت سماء المتوسط.
فرحنا، نحن العالقين بين العطالة والانتظار، بعودة مهرجان يحمل ذاكرة سينمائية كبيرة، وواجهة رمزية لسينما الضفّتين. لكن هذه الفرحة لم تعمّر طويلًا. سرعان ما خفت الضوء، لا بفعل البحر ولا الموج، بل بفعل سوء التنظيم، العشوائية، وانعدام الرؤية..
إذ كان الافتتاح في تلك الدورة مخيبًا بسبب ضعف الترويج الذي قلل الحضور، وإخراج فني ضعيف غابت فيه السينوغرافيا والديكور، وتنظيم مرتجل دون إدارة واضحة، بالإضافة إلى تكريم باهت لزهير محجوب بدون تقديم يليق بمكانته، مما أضعف روح الاحتفال.
واختفى المهرجان كما جاء، بصمت مخجل، كأنّه لم يكن. لا محاسبة، لا استشراف. مجرّد اندثار جديد يضاف إلى لائحة الخسارات الرمزية في المشهد الثقافي التونسي
من المسؤول؟ ومن يحاسب؟
لا نستغرب هذا المشهد حين نعيش في زمن تُدار فيه الثقافة بمنطق المصلحة الفردية لا المشروع العام.
في وقت يُفترض فيه أن تتنافس الفرق والمبادرات والمهرجانات على جودة الفكرة وتكامل التصوّر، نجد أن القرارات تُتخذ في مكاتب مغلقة، بناءً على أهواء شخصية، لا على معايير موضوعية.
مصادر مطّلعة أكدت، مؤخرًا، أن وزيرة الشؤون الثقافية السيدة أمينة الصرارفي قرّرت، بصفة فردية وبعيدًا عن أي إطار قانوني شفاف، أن تعتمد فرقتها الخاصة “العازفات” كممثّل حصري لتونس في موعد دولي مهم، دون فتح طلب عروض، أو تشكيل لجنة تقييم فنية، أو احترام مبدأ تكافؤ الفرص مع باقي الفرق الثقافية النسائية.
هل يكون هذا فقط صدفة؟ أم هو وجه من وجوه الأزمة الأكبر: تحويل الوزارة إلى ساحة مغلقة لتصفية الحسابات، وتهميش الطاقات، وإدارة الشأن الثقافي بمرآة صغيرة لا ترى سوى انعكاس صاحبتها!
إن أزمة مهرجانات السينما ليست مجرّد تعثّر في البرمجة أو تمويل ناقص، بل هي مظهر من مظاهر الإنهاك المؤسّسي الذي أصاب المشهد الثقافي التونسي. ما يُقلق اليوم ليس الغياب العرضي لهذا المهرجان أو ذاك، بل غياب الرؤية الاستراتيجية، غياب الإرادة الحقيقية في بناء سياسة ثقافية تليق بتاريخ تونس السينمائي، التي تجهض آفاق الشباب في كل مرة.
أصوات كثيرة نبّهت إلى هذا السقوط الحرّ. من بينها المخرج التونسي عبد الحميد بوشناق الذي أشار في أكثر من مناسبة إلى أن “السينما لا تُدار بعقليات بيروقراطية، بل تُصنع بإرادة حرة ومؤمنة بقوة الصورة”. ومن جهته أفاد رئيس الاتحاد المهني للصناعة السينمائية، محمد علي بن حمراء، بأن قطاع السينما لا يزال يفتقر إلى الإصلاحات الجوهرية الكفيلة بتطويره، مشيرًا إلى أن التشريعات القديمة التي تنظّمه لم تشهد أي تغيير يُذكر حتى اليوم.
ميزانيات تُدار “بالقطّارة”
لا يُمكن الحديث عن أزمة مهرجان دون التوقّف عند وضعية “الفيفاك” المهرجان الدولي لفيلم الهواة بقليبية، الذي يُنظّم منذ سنوات بمحض معجزة. رغم هشاشة موارده، وضعف الإمكانيات اللوجستية، يستمرّ بفضل حب منظّميه اللامشروط، ووفاء جمهور لا يرى في هذا الحدث ترفًا، بل واجبًا ثقافيًا وذاكرة جماعية. لكن إلى متى يمكن لحبّ المتطوّعين أن يعوّض غياب الدولة؟ وإلى متى يُعامل المهرجان وكأنه مبادرة جانبية، لا حدثًا وطنيًا يستحقّ الاحتضان والدعم؟
لا تقتصر الأزمة على تراجع الدعم أو ضعف الإدارة، بل تتجلى بشكل أكثر وضوحًا في غياب العدالة الثقافية. فكلّ المهرجانات الكبرى تقريبًا تتمركز في العاصمة والمدن الساحلية: قرطاج، الحمّامات، سوسة… بينما الجهات الداخلية
الكاف، قفصة، سيدي بوزيد، سليانة وغيرها بالكاد تنظم تظاهرات صغيرة بموارد هزيلة. المراكز الثقافية في هذه الجهات تفتقر إلى التجهيز، وغالبًا ما تُستعمل كفضاءات إدارية لا حاضنة للثقافة. فهل يمكن الحديث عن سياسة ثقافية وطنية دون لامركزيّة حقيقية؟ وأي رؤية تُبنى إذا كانت الجهات لا ترى نصيبًا لها في التظاهرات الكبرى إلا كمتفرّج لا كمشارك فعّال؟
كلّ ذلك يحدث في ظل ميزانية سنوية لا تعكس طموحًا حقيقيًا للنهوض بالقطاع. ميزانية وزارة الثقافة لسنة 2025 لم تتجاوز 425.49 مليون دينار، بزيادة ضعيفة تُقدّر بـ3% فقط عن سنة 2024. من هذه الميزانية:
نفقات الاستثمار زادت بـ8%
نفقات التدخلات زادت بـ4%
نفقات التأجير والتسيير ارتفعت بـ1% فقط
لكن رغم هذه النسب، فإن الميزانية المخصصة للثقافة لا تمثّل سوى 0.7% من ميزانية الدولة. أي أننا نتعامل مع قطاع يُعدّ من أقلّ القطاعات دعمًا على مستوى الأولويات الوطنية. هذا ليس مجرّد رقم، بل مؤشّر على غياب الإرادة السياسية الحقيقية لإعطاء الثقافة المكانة التي تستحقّها.
وحتى في حال توفّر التمويل، هناك مفارقة مؤلمة: المهرجانات تُقام، والميزانيات تُصرف، لكن القاعات تبقى شبه فارغة. الإشكال هنا لا يرتبط فقط بجودة البرمجة، بل بضعف التواصل مع الجمهور، وغياب الحملات الإعلامية الذكية، وتجاهل دور التكوين والتنشئة الثقافية. فقد تحوّلت التظاهرات إلى لقاءات نخبوية منغلقة، في حين كان يفترض بها أن تكون مساحة للتلاقي الشعبي والانخراط الجماعي.
غياب استراتيجية تواصل فعالة، وتهميش الشباب، وافتقار أدوات الترويج الثقافي، كلّها عوامل تُحوّل المهرجانات إلى لحظات بلا ذاكرة، تُستهلك ثم تُنسى، دون أثر مستدام في الحياة الثقافية.
اختزل الناقد السينمائي الراحل خميس الخياطي ، في حوار له ذات مرة، جانبًا من الواقع الثقافي المتردّي حين يقول:
“الجرأة لا تتعلّق بطرح المواضيع فقط، بل في إنتاج أفلام سينمائية في بلدٍ تراجع فيه عدد القاعات السينمائية من 55 قاعة إلى 20 قاعة”.
فالاستهتار الرسمي لا يقتصر على غياب الرؤية في إدارة المهرجانات، بل يتجلّى أيضًا في اندثار فضاءات العرض نفسها، حيث تُغلق القاعات الواحدة تلو الأخرى دون أن يُحرّك ذلك ساكنًا في دواليب الوزارة. كأن السينما، بما تمثّله من ذاكرة جماعية ومساحة نقاش، أصبحت شيئًا فائضًا عن الحاجة، تُترك لتذبل بصمت كما ذبلت العديد من التظاهرات الثقافية التي لم تجد من يحميها أو يُدافع عن استمراريتها.
إنّ أزمة المجال السينمائي في تونس ليست قَدَرًا محتومًا، بل نتيجة مباشرة لسلسلة من الخيارات السيئة، والقرارات الارتجالية، والانسحابات المؤسّسية المتكررة. لكن الأمل لا يزال ممكنًا، إذا ما أُعيد التفكير جذريًا في أسس السياسة الثقافية وفق التصورات التالية
ومع ذلك، يبقى الأمل معقودًا على مبادرات بديلة، على مجموعات شبابية تؤمن بالسينما كأداة مقاومة ومساءلة. قد لا تغيّر هذه المبادرات موازين القوى اليوم، لكنها تفتح ممرًّا صغيرًا للضوء في وسط هذا الركح المطفأ.
فهل من أفق؟ نعم، بشرط أن يُعاد التفكير في العلاقة بين الفنّ والسلطة، بين الثقافة والسياسة، وأن نمنح الثقافة حقّها في أن تكون سلطة مضادّة، لا تابعًا مطيعًا.