“البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو”، فيلم خالد منصور الطويل الأول، يأتي بنبرة سينمائية مختلفة تأخذنا في رحلة لا تشبه الأفلام المعتادة. الفيلم الذي شهد عرضه العالمي الأول في قسم “آفاق إكسترا” بمهرجان فينيسيا السينمائي الدولي الحادي والثمانين، يعيد تقديم الحكاية السينمائية من منظور فريد، مسلطا الضوء على العلاقة المرهفة بين إنسان وكلب، في بيئة تبدو مألوفة لكنها تغمرنا بتفاصيل جديدة.
رامبو، الكلب الذكي الذي يحمل الفيلم اسمه، ليس مجرد حيوان أليف على الشاشة، بل يمتد حضوره ليصبح رمزا للحياة البسيطة والصراعات المخفية التي يخوضها أبطال الحكايات في صمت. الفيلم لا يحكي فقط عن صداقة بين كلب وشاب، بل يتعمق في تعقيدات حياة شخصية حسن، الشاب البسيط الذي يعمل حارس أمن في ناد اجتماعي. شخصية تشبه الكثيرين ممن يعيشون على هامش المجتمع، يعملون في وظائف عابرة دون أن يتلاءموا تماما مع طبيعتها، ويحملون على أكتافهم أحلاما صغيرة وصراعات أكبر مما يبدو على السطح.
في وسط القاهرة الصاخب، يرسم خالد منصور عالم حسن بحساسية فائقة، علاقة مركبة تجمعه بأمه وبمنزله المهدد، وبصراعه مع جارهم “كارم”، الميكانيكي المتسلط الذي لا يعترف بأي قيمة للناس أو المكان. يتعامل الفيلم بذكاء مع هذا الصراع، متجنبا الخطابات الواضحة، ليقدّم صورة حقيقية لمجتمع يعج بالتناقضات، حيث تختلط مشاعر الخوف والتمرد، وحيث تصبح البلطجة وسيلة تفرض نفسها في غياب العدالة والاحترام.
رامبو، الكلب الذي يشارك حسن هذه الحياة، يجد نفسه في قلب هذه المواجهة، ليصبح هدفا لكراهية كارم غير المبررة. وما كان يمكن أن يكون نزاعا بسيطا حول منزل يتحول إلى معركة غير متكافئة، تتورط فيها الكائنات التي لا صوت لها. هذا الوجود الصامت لرامبو يسلط الضوء على هشاشة الحياة وعلى تلك القيم الإنسانية التي نتجاهلها في غمرة التوتر اليومي. الكلب ليس مجرد ضحية لصراع بين بشر، بل يمثل البراءة المحاصرة وسط عالم لا يرحم، عالم حيث تصبح أبسط الأشياء مثل الأمان أو الطمأنينة ترفا لا يمكن للجميع الوصول إليه.
ما يميز هذا الفيلم هو تلك القدرة على دمج العوالم المختلفة، المحلية والعالمية، بشكل يجعل الحكاية قابلة للتواصل مع أي مشاهد، بغض النظر عن خلفيته الثقافية. يظهر خالد منصور ببراعة كيف يمكن لرمز بسيط، ككلب، أن يصبح محورا لحكاية إنسانية عميقة. وبالرغم من بساطة الفكرة، إلا أن الفيلم يثير تساؤلات كبيرة حول ما نعتبره مهما في الحياة، وكيف تتشكل قيمنا أمام التحديات.
تتحرك كاميرا خالد منصور بحرية عبر شوارع القاهرة، لتلتقط ببراعة تفاصيل المدينة التي لا تنام، وتتناوب بين لحظات السكون والعنف، وكأنها تعكس صراع حسن ورفيقه رامبو في محاولتهما إيجاد ملاذ بعيدا عن التهديد. لا يستخدم الفيلم المدينة كخلفية فقط، بل كجزء حي من السرد، مازجا بين العوالم الخارجية والداخلية للشخصيات.
الفيلم يقدم تجربة بصرية ونفسية متكاملة، حيث لا تخلو المشاهد من الدفء والحميمية، رغم قسوة الظروف. وتنعكس هذه الروح أيضا في أداء الممثلين، حيث يتألق عصام عمر في دور حسن بأداء يحمل مشاعر مكبوتة، وصراعات نفسية تتكشف ببطء مع تطور الأحداث، دون افتعال أو مبالغة. يكشف لنا الفيلم أن السينما ليست مجرد سرد للقصص، بل هي فن التأمل في التفاصيل الصغيرة، ومرآة تعكس صراعات الفرد مع محيطه ومع ذاته.
“البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو” ليس مجرد فيلم عابر، بل هو دعوة لإعادة النظر في العلاقات التي ننسجها مع العالم من حولنا، ومع من لا يستطيعون التعبير عن أنفسهم. إنه عمل سينمائي يتوغل في أعماق النفس البشرية، ليرسم صورة معقدة ومؤثرة عن الإنسان والعالم والحيوانات التي تشاركنا حياتنا دون أن ننتبه دائما لحضورها أو أهميتها. خالد منصور يثبت بهذا الفيلم أنه ليس فقط مخرجا واعدا، بل فنان قادر على التقاط ما هو غير مرئي وتقديمه في صورة سينمائية نابضة بالحياة.
عبير العقربي