وإذا الطفولة سألت بأي ذنب أُجبرت على عيش ما لا طاقة لها به؟ سؤال خطر ببالي بعد مشاهدتي فيلم الذراري الحمر للمخرج التونسي لطفي عاشور خلال عرضه العربي الأول في مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي. بعد جولة في المهرجانات الدولية وحصوله على 11 جائزة خلال مسابقاتها، انطلاقًا من مهرجان لوكارنو.
في خريف 2015، عشنا واقعة ذبح الطفل مبروك السلطاني في جبال المغيرة على يد عناصر إرهابية، ومن منا لم تبقَ صورة رأسه المرسل إلى عائلته عالقة في ذاكرته، بينما ظل جسده في الجبل؟ حادثة هزّت تونس وأدخلت حالة من الخوف والقلق حول ما قد يقدم عليه أولئك المجرمون. إلا أن ما سبق لم يمرّ في ذهن لطفي عاشور مرور الكرام، بل ألهمه لكتابة فيلمه الذراري الحمر ليقدم لنا قصة «أشرف»، الذي حلم وتخيّل مع ابن خالته وصديقه «نزار»، الذي أُجبر على إيصال رأسه إلى عائلته بعد ذبحه في الجبل.
من السهل أن تكتب وتخرج فيلمًا مبنيًا على حادثة رسخت في الذاكرة الجماعية لشعب ما، فأنت بذلك تكسب جزءًا كبيرًا من التعاطف قبل بداية العرض. لكن من الصعب أن تتحكم في الفيلم وتتفادى الوقوع في فخ المتاجرة بالقضية أو بمآسي الناس. وهذا ما نجح فيه لطفي عاشور. فعلى الرغم من أن القصة كانت معروفة لي بتفاصيلها ومراحل تطورها – كما هو الحال مع أغلب التونسيين – إلا أنني وجدت نفسي ملزمًا بمتابعة قصة الفيلم مثل بقية الجمهور في القاعة من العرب والأجانب الذين لم يكن لديهم فكرة عن الجريمة الأصلية. شاهدت فيلمًا سينمائيًا متقنًا ومُحكمًا على أصعدته الثلاث: البنية الدرامية، والصورة، وإدارة الممثلين، وهذا المثلث هو الذي يحدد علاقتي بأي فيلم أشاهده.
فيلم بعيد كل البعد عن تلك التعابير المبالغ فيها في أداء الممثلين، سواء كانوا محترفين أو هواة وقفوا لأول مرة أمام كاميرا لطفي عاشور.
بطل الفيلم، الطفل علي هلالي الذي جسّد دور «أشرف»، هو طفل يحمل في ملامحه ثقل الحياة ممزوجًا ببراءة الطفولة. أتقن لعب الشخصية ليأخذنا في كل مرة إلى عوالمه المختلفة بين الفرح والحزن، بين الصمود والانهيار، وبين الخوف والإقدام. سافر بين هذه الحالات ليأسر القلوب والعقول بأداء لا يمكن إلا أن يوصف بأنه رائع. تغيّب الطفل من داخله ليتمكن من مواجهة ما عاشه وتنفيذ مهامه، ثم يخرج مشاعر كبتتها الحياة، فنكتشف فيه الجانب المنكسر من طفولة حُرمت من حقوقها وأُجبرت على أن تشيخ قبل سن الشيخوخة. وماذا ذنب «أشرف» والمئات أو الآلاف من الأطفال الذين تُنتزع منهم طفولتهم وتُقطف من وجناتهم زهرات براءتهم؟ وكم لدينا من طفل بيننا ميت وهو حي؟ أيكفي أن ننام ونأكل لنعرف أننا أحياء؟ أم أننا نعيش مادامنا نتابع أحلامنا لتحقيق الآمال؟
عالم عاشور البصري بسيط في ظاهره، مدروس ومعقد في باطنه. فقد استخدم المشاهد الواسعة وحركات الكاميرا الهادئة في الجبال لتمنحنا طعمًا للتماهي في عالم «نزار» و «أشرف»، الخفي. عالم يلجآن إليه بعيدًا عن الضغوطات الاجتماعية والاقتصادية، وهروبًا من واقع أجبرهما على مسارات محددة ولم يترك لهما أي خيار. بهذه الاختيارات الفنية انغمسنا في هذا العالم وشاركنا معهما لحظات صفاء، بل وصلنا إلى مرحلة بحثنا عن ذواتنا في داخلهما. ثم تنزل علينا الصاعقة، مثلما حدث لهما أثناء الحادثة المباغتة، لتتحول نفس تلك المشاهد الواسعة في الجبال إلى مصدر قلق وبحث وضياع بالنسبة لنا مثل الشخصية الرئيسية في الفيلم.
اسم الفيلم الذراريالحمر مع ذلك المشهد الذي نرى فيه البطل بمعطفه الأحمر أمام الجبل، يأخذنا مباشرة إلى تلك القصة التي سمعناها في الصغر «ذات الرداء الأحمر»، التي تواجه الذئب الشرير في الغابة في طريقها إلى منزل جدتها. نعم، فالبطل قابل ذئابًا آدميين في الجبل، أبشع من ذئاب القصص الكرتونية، كما قابل أيضًا نعاجًا خارجها ممن رفضوا الذهاب إلى الجبل للبحث عن الضحية أو محاسبة المعتدين. وهنا يحضرني بيت الشابي: «ومن يتهيب صعود الجبال، يعش أبد الدهر بين الحفر.»
لن أطيل الحديث عن الفيلم، فإن للجمهور التونسي فرصة لقائه ضمن المسابقة الرسمية لأيام قرطاج السينمائية. فيلم يدخل المسابقة محملاً بـ 13 جائزة، آخرها جائزة أفضل مخرج وجائزة اليسر الذهبي لأفضل فيلم طويل في مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي.