الخبز المعلّق على حافة الذاكرة… الجوع كعدسة درامية في السينما الفلسطينية

في المشهد الفلسطيني، لم يكن الجوع يومًا مجرّد عرضٍ جانبيّ أو خلفيّة لقصص الحصار، بل كان دومًا جزءًا من بنية السرد، وجذرًا في الحبكة، وأداةً فضحت بشاعة القمع الإسرائيلي ومشتقّاته. لقد تجاوز الجوع في الأعمال السينمائية الفلسطينية حدود الجسد، ليغدو شكلاً من أشكال التعذيب الرمزي، ووسيلة لتحطيم الكرامة وإخضاع الروح.

في قطاع غزة المحاصر، حيث تبدو الأسواق خالية من نبضها، وحيث فشلت المساعدات الدولية في أن تداوي الجراح المتقيّحة، تبدو المجاعة اليوم أكثر من كارثة إنسانية. إنها، ببساطة، جريمة تُرتكب ببطء وبصمت. والسينما، كما عهدناها، لا تصمت حين يصمت العالم.

الخبز مرآةً للعدالة الغائب

تُجسّد السينما الفلسطينية، في مشاهدها الأكثر حدة، الجوع بوصفه سلاحًا استعماريًا لا يقل فتكًا عن الرصاص. ففي فيلم “3000 ليلة” للمخرجة مي المصري، لا يُصوَّر الجوع بوصفه مجرّد حرمان غذائي، بل بوصفه وسيلة ممنهجة لإذلال السجينات الفلسطينيات وتفكيك إنسانيتهن. تقبع “ليال”، المعلمة الشابة، في سجنٍ إسرائيليّ حيث تتحوّل وجبة الطعام إلى أداة عقاب، ويصبح الحليب لطفلها الوليد ترفًا مهددًا بالإلغاء. الأمومة هنا مشروطة بلقمة، والتربية مرهونة بتنازلٍ عن الكرامة.

يضعنا الفيلم أمام سؤال جوهري: ما معنى أن تُنجب تحت القهر، أن تُطعم ابنك في زنزانة، وأن تقاوم بـقلبٍ جائع؟ لعلّ الجوع في هذا العمل لا يُستخدم كخلفية درامية بل كجوهر سردي، يكشف شراسة الاحتلال وتعقيدات البقاء.

فرحة.. قبو النكبة ومجاعة الذاكرة

أما فيلم “فرحة” للمخرجة دارين سلّام، فيتّخذ من الجوع مدخلاً لفهم النكبة من زاوية مختلفة. فتاة فلسطينية، تُحبس في قبوٍ على يد والدها لحمايتها من المجازر، تجد نفسها وحيدة، تترقّب الخارج بأذنين وعينين وارتجافة قلب. هنا، الجوع ليس جوع المعدة فقط، بل جوع العالم. إنها تجوع للضوء، للمعنى، للمستقبل. فرحة التي كانت تحلم بالدراسة، تجد نفسها سجينة الخوف، والماء المقطوع، والخبز المقطّر.

المأساة هنا مزدوجة: فتاة تُحبس باسم النجاة، وتُترك في مواجهة النكبة بكل تفاصيلها، بلا سلاحٍ سوى صبرها. وبهذا، تصبح المجاعة رمزًا للفقدان المضاعف: فقدان الأمان، وفقدان الحلم.

وفي زاوية أخرى من الخريطة البصرية الفلسطينية، يأتي الفيلم الوثائقي الإسباني “وُلدت في غزة” ليمنح الجوع نبرةً أكثر صمتًا، وأشدّ وقعًا. فهنا لا حاجة للموسيقى التصاعدية أو التأثيرات المفتعلة، إذ يكفي صدى الصمت خلف برودة الثلاجات الفارغة، أو صوت خطى الأطفال الباحثين في أكياس الإغاثة عمّا يسد رمقهم.

عبر عشر حكايات واقعية لأطفال تتراوح أعمارهم بين الثامنة والخامسة عشرة، تتقاطع الطفولة مع الرعب، واللعب مع رائحة البارود. وفي خلفية كل مشهد، يهمس الجوع دون أن يُسمّى، يتسلل من لقطة أمٍّ تقسم الرغيف إلى خمسة، أو من طابور طويل أمام مخبز لم يعد يملك ما يخبزه. إنه الجوع بوصفه خلفية جماعية، لا يُعلن عن نفسه، بل يفضح الواقع من دون خطاب.

بهذا الوثائقي، تتكرّس الصورة كسلاح مضاد للنسيان، حيث لا يتحدث الأطفال عن الجوع، لكن وجوههم تقول كل شيء. فالفيلم، الذي لاقى صدى واسعًا على منصة نتفليكس، لا يقدّم المجاعة كقضية منفصلة، بل ينسجها ضمن نسيج المعاناة اليومية، كظلّ لا ينفكّ يرافق الوجوه الغضّة، ويعلّق على جدران الذاكرة… حيث يقيم الخبز، مؤجَّلًا، كسؤال لا إجابة له.

إنه الجوع الذي لا يُسجَّل في تقارير المنظمات فحسب، بل في وجوه الأطفال، في حليب الأمهات المهدّد، وفي عتمة القبو. الجوع في هذه السينما ليس رقماً أو إحصاءً، بل مشهدًا حيًا يُروى بالدمع، يُبنى على نبض الصبر، ويُكتب بالحياة.

في وجه آلة التجويع، تخرج السينما الفلسطينية بمهمة مزدوجة: أن تُقاوم، وأن تُوثّق. فهي لا تسعى فقط إلى نقل الواقع، بل إلى مساءلة العالم: ماذا يعني أن تكون جائعًا في زمن العالم المتخم؟ من يملك حقّ الطعام، ومن يُحرم منه، ولماذا؟

أسئلةٌ تضعها هذه السينما بقوة، وتحملها على أكتاف شخصياتها النسائية في معظم الأحيان، لتقول إن المرأة ليست مجرد ضحية الجوع، بل شاهدة عليه، وراوية لتفاصيله.