“أنا هند رجب …أدرس بصف الفراشات بمدرسة سعادة الطفولة… هل الإنسانية تسمعني؟”

بعد الرواج الكبير الذي لاقاه في مهرجان البندقية السينمائي حيث حصد الأسد الفضي وصفّق له الجمهور أربعا وعشرين دقيقة متواصلة، كان عرض فيلم “صوت هند رجب” لكوثر بن هنية في قاعة الكوليزي بتونس صباح 12 سبتمبر 2025 موعدا منتظرا من قبل الصحفيين. أدرك الجميع أنه أمام عمل يلامس جرحا مفتوحا في جسد فلسطين، جرح الطفولة المسلوبة تحت ركام غزة. امتدّ صمت القاعة قبل بدء الفيلم كجدار ثقيل، ثم انكسر برفق على وقع صوت هند المرتجف، صوت هش يختزل براءة الطفولة ومأساة لا تحتمل إعادة تمثيل.
بهذا العمل، حافظت بن هنية على خطّها السينمائي الذي دأبت عليه في “شلاط تونس” و”بنات ألفة” وغيرهما، مواصلة بذلك الانطلاق من الهوامش والمسكوت عنه، وتحويله إلى حدث مأساوي يهز الرأي العام.

مأساة أكبر من الشاشة


اختارت بن هنية أن تحصر كاميرتها داخل مركز اتصالات الهلال الأحمر في رام الله، حيث يتجادل الموظفون حول إرسال سيارة إسعاف، بينما صوت هند- أو “هندود” كما اختارت أن تعرف بنفسها- يعلو ويتكسّر من بعيد. الفضاء ضيّق، مُحكم، بلا نوافذ، وكأنّ المخرجة أرادت أن تضع المشاهد في سجن الانتظار ذاته الذي علقت فيه الطفلة. لكنّ هذا الخيار، وإن كان مقصودا، يكشف محدودية الصورة التي بقيت عاجزة عن مضاهاة ثقل الصوت. فالفيلم، في النهاية، هو رهين التسجيل الصوتي أكثر من كونه بناء بصريا قائما بذاته.
وهنا، يطل في الذهن قول المخرج السينمائي ألفريد هيتشكوك: “الفيلم الجيد هو الذي إن حذفت شريطه الصوتي، ظلّ قادرا على شدّ المشاهد بصريا.” فماذا لو حذفنا الصوت من فيلم بن هنية؟ سنكتشف أن الصورة هنا فارغة تقريبا، بلا طبقات، بلا لغة بصرية تترجم حجم الكارثة. تظل الكاميرا محصورة في زوايا ضيقة، بلا عمق درامي أو نفسي للشخصيات. ومع اقتراب النهاية، يخيّم على المشهد شعور بالبهتان، معتمدة المخرجة على لقطات أرشيفية حقيقية، كما لو أن الفيلم عجز عن صياغة خاتمة تنبض بروحه الخاصة.
التوظيف المكثّف لصوت “هند” يترك أثرا إنسانيا لا شك، لكنّه ينزلق سريعا نحو ابتزاز المشاهد عاطفيا. فحين يتحوّل البكاء الجماعي إلى غاية في حد ذاته، يصبح الفن وسيلة ضغط عاطفي أكثر منه أداة تفكيك للواقع أو كشف لجرائم الاحتلال. المأساة التي تدمع لها القلوب قد تتحوّل هنا إلى سلعة بصرية، تُباع بتذاكر سينما، ويُعاد إنتاجها في سوق الجوائز العالمية.
من أكثر المشاهد استفزازا، ما جاء على لسان موظف الهلال الأحمر، حين سخر من جدوى نشر أخبار الأطفال المصابين عبر وسائل التواصل الاجتماعي متسائلا عن مغزاها: “ماذا سيستفيد هؤلاء غير أن المنصات تربح من تداول أخبارهم؟” لكن أليست هذه المفارقة تنطبق على الفيلم ذاته؟ أليست الشاشة الكبيرة هنا أيضا منصّة ربحية أخرى استغلت دموع الطفلة وأوجاع غزة لتُبهر المهرجانات وتُثقل رصيد المخرجة بالجوائز؟

صرخة فراشة في وجه الموت


مع ذلك، لا يمكن إنكار الأثر العاطفي الهائل للفيلم، فالمشاهد يجد نفسه أسيرا لسماع تلك الأنفاس الأخيرة، محاصرا بين ثوان ودقائق وساعات تمر ببطء ثقيل، فيما يظل صوت هند يتردد: “تعالوا خدوني… الدنيا حتظلم… أنا خايفة”، بينما يحاول “عمر” و “رنا” والأخصائية النفسية ( موظفون بالهلال الأحمر) تهدئتها.
تبقى هند محاصرة في السيارة وسط وابل القصف، محاطة بجثث أفراد عائلتها. يزداد نحيبها وخوفها مع كل لحظة تمر. تحاول “رنا” تهدئتها، فتخبرها بأن عائلتها نائمة، لترد الطفلة بلا تردد: “لا… هم ماتوا”. كلمات قصيرة لكنها مشحونة بثقل الحرب، تكشف مدى اعتياد الأطفال على شبح الموت.
ثم تأتي البراءة التي تقطع القلب، حين تسأل هند عن دراستها في “قسم الفراشات” بمدرسة تحمل اسم “سعادة الطفولة”، فتتجلى المفارقة المرّة: اسم ينهار أمام واقع لا يعرف السعادة، وطفلة تشبه الفراشة يُطاردها الموت بدل أن تطير في باحات المدرسة.

براءة تُدفن في متاهة الإجراءات


في قلب هذا النحيب المروع، يكمن مركز الطوارئ، المفترض أن يكون مجهزا بكافة الوسائل، لكن الواقع مختلف: سيارة إسعاف وحيدة، مترددة في المجازفة، تكاد تتلاشى بين البيروقراطية والحذر المفرط، بينما تنهار الطفولة أمام عيون الجميع، ويظل الصوت وحده شاهدا على المأساة، متنقلا مباشرة إلى وجدان المشاهد، بلا فواصل ولا ستار سينمائي يحجب قسوة الحقيقة.
“تنسيق!…إن شاء الله هالمرة ما ياخذ 9 ساعات…” ، جملة عابرة على لسان “رنا” (موظفة بالهلال الأحمر) ، تبدو في ظاهرها روتينية، لكنها تكشف عن المأساة التي تُختزل في أرقام وأوقات انتظار. فالمشهد في مركز اتصالات الهلال الأحمر برام الله يبدو أشبه بمسرح عبثي، متطوعون ينسّقون، يفاوضون، يترقبون “ضوءا أخضر” لا يأتي أبدا. وفي غزة، يبدو أنّ هذا اللون نفسه محكوم عليه بالإقصاء، ربما لأن الكيان المحتل يكره كلّ ما يوحي بالعبور أو بالحياة، ويفضّل اللون الأحمر المسفوك في شوارع غزة.
ليس سرّا أنّ الفيلم حظي بدعم أسماء لامعة من هوليوود: براد بيت، خواكين فينيكس، روني مارا، ألفونسو كوارون… أسماء تصطفّ دوما وراء “القضايا الإنسانية” التي تناسب معايير الليبرالية الغربية. غير أنّ هذه “الإنسانية” تبدو انتقائية، تبكي على هند رجب لكنها تغضّ الطرف عن مئات الأطفال الآخرين الذين يموتون يوميا بصمت، بلا صوت ولا صورة ولا تصفيق. بالنسبة للتونسيين والعرب، تتجاوز فلسطين الشعارات الموسمية والدعاية، لتظل جوهر الانتماء والهوية والوجود.

رحلت هند بعد ثلاث ساعات من الاستغاثة، ولم يُنتشل جثمانها إلا بعد اثني عشر يوما. لكن كم من “هند” تُزهق روحها كل يوم دون أن يلتقط أحد صوتها؟ هنا تتبدّى المعضلة الحقيقية: إذا كانت السينما رسالة، فهل الرسالة تكمن في استدرار البكاء الجماعي، أم في مساءلة العالم عن صمته؟ بين هذين الحدّين تتأرجح تجربة “صوت هند رجب”، عمل يترك أثرا عاطفيا جارحا، لكنه يفتح في الآن ذاته سؤالا مؤلما عن “مصير السينما حين تتحوّل المأساة إلى “سلعة بصرية.