“كاميكاز”: حين تصبح المشرحة مسرحا للصراعات النفسية والعزلة الإجتماعية

You are currently viewing “كاميكاز”: حين تصبح المشرحة مسرحا للصراعات النفسية والعزلة الإجتماعية

“كاميكاز”: حين تصبح المشرحة مسرحا للصراعات النفسية والعزلة الإجتماعية

في ليلة الخميس 12 سبتمبر 2024، احتشد عشاق السينما بقاعة الطاهر شريعة بمدينة الثقافة الشاذلي القليبي، يترقبون العرض قبل الأول لفيلم “كاميكاز” للمخرج التونسي حسان المرزوقي. الحضور كان مزيجا من فضول وترقب، وكأنهم على وشك الدخول إلى عالم جديد، مبهم وغامض. تسللوا إلى مقاعدهم واحدا تلو الآخر، وما إن انطفأت الأضواء وساد الصمت، حتى اجتاحت الشاشة مشاهد صادمة: أشلاء بشرية متناثرة، ورجل يقف أمامها مبتسما في سعادة غريبة تتناقض مع فظاعة المشهد.
الفيلم يتجاوز السرد التقليدي، ليغوص في أعماق النفس البشرية، مسلطا الضوء على “حكيم”، الشاب التونسي المثقل بأعباء نفسية واجتماعية تدفعه إلى حافة الجنون. حكيم هو تجسيد حي للصراع الداخلي، يعيش في دوامة من الأفكار السوداوية والهلاوس التي تسكنه. هو شاب لا يجد لنفسه موطئ قدم في مجتمع يرى فيه سجنه وموته البطيء. الفيلم يأخذنا إلى قلب هذا الصراع، حيث يسعى البطل إلى إعادة تشكيل الحياة كما يتصورها، بعيدا عن قواعد الواقع، حياة تنبع من الموت في أكثر الأماكن غرابة: المشرحة، حيث الجثث المسجاة تصبح مشروعه السري لبناء عالم جديد.

مفارقة الاسم واللون: بين حكمة مفقودة وعنف حاضر

يحمل حكيم اسما يضاد تماما صفاته، هو أبعد ما يكون عن الحكمة والرزانة، بل هو كتلة متحركة من الفوضى والضياع. هذا التناقض يجعل من بطل القصة شخصية متفجرة، تبحث في الظلام عن مخرج، في واقع لا يعترف بأمثاله. يترجم المخرج هذه الحالة النفسية من خلال استخدام ذكي ومكثف للألوان، الأحمر يطغى على إطلالات حكيم، لون الدم والعنف الذي يلتصق به، بينما تتلون مشاهد الجريمة بنفس الحدة. الأحمر هنا ليس مجرد اختيار بصري، بل هو انعكاس للاضطراب والغضب القابع في نفس الشخصية، اللون الذي يلاحقه كظل ثقيل.
على النقيض، تظهر حبيبته في إطلالات يغلب عليها الأبيض والأزرق، ألوان ترمز للنقاء والسلام والصفاء. هي تجسيد للأمل المفقود والطهر الذي يفتقده حكيم في حياته. في مشهد دقيق، تخلع الحبيبة حذاءها الأحمر قبل دخولها المنزل، وكأنها تتخلص من عبء العنف والدماء، ساعية إلى التصالح مع نفسها ومع تصرفات حبيبها، في إشارة واضحة إلى رغبتها في حياة نقية بعيدا عن الصراع.

حوار حكيم مع الذات: صرخة الخيبة وأوهام التغيير

في أحد المشاهد الحوارية الفلسفية في الفيلم، نسمع صوت بطلنا العصبي، يخاطب نفسه قائلا: “عمرها ما كانت بلادي… أنا أكبر منها .. بلاد الفقر لا تنجم تكبرني لا تنجم تعيشني”… جملة مكثفة تحمل في طياتها صرخة جيل كامل، مشبع بخيبات الأمل وفقدان الثقة. إنه تعبير عن حالة من الانسلاخ عن الوطن، عن شعور بالخذلان والانفصال عن مجتمع لا يقدم سوى المزيد من الإحباط.
لكن الحبيبة تقاطع هذا السيل الجارف من السخط، وتأتي بكلمات رقيقة أشبه بصفعة وعي: ” أضحك… أعطي لروحك فرصة…تونس مش خايبة”. كلمات بسيطة، ولكنها تحفر عميقا في نفس المشاهد، تطرح أسئلة تتجاوز حدود الشاشة: هل المشكلة حقا في البلاد؟ أم أننا نحن من نجلد ذواتنا، ونغرق في السلبية دون أن نمنح لأنفسنا فرصة للخروج من هذه الدوامة؟

خطوط متشابكة بين الحقيقة والهلوسة

أحد أكثر عناصر الفيلم إرباكا هو الشخصية الحبيبة، التي قد تثير في عقل المتفرج الحيرة والتساؤل: هل هي فعلا موجودة، أم أنها انعكاس لأفكار حكيم وتخيلاته؟ تبدو كأنها تجسيد لجزء من حكيم  الذي كان يطمح إلى النقاء والسلام قبل أن يبتلعه جنون المجتمع. ربما تكون رمزا للبراءة التي فقدها، أو مرآة لما كان عليه قبل أن يتغير بفعل الضغوط والخيبات.
يتركنا الفيلم في حالة من الشك والارتياب، فنهاية الحبيبة تعكس تحولات جذرية في نفسية حكيم، وكأنها استعارة لتلك النقلة التي طرأت على شخصيته، حيث يموت جزء منه ليولد آخر أشد قسوة وأكثر استعدادا لمواجهة عالم لا يرحم.
لا يمكن الحديث عن دور “حكيم” دون الإشادة بأداء عبد المنعم شويات، الذي جسد الشخصية بمهارة استثنائية جعلت منها تجربة حية تتجاوز حدود الشاشة. في كل لحظة من لحظات الفيلم، يجذبك شويات بإتقانه لأدق التفاصيل، فيتنقل بسلاسة بين حالات الاضطراب والانهيار، متجاوزا حدود التمثيل التقليدي ليصل إلى مرحلة الإقناع التام. لم يفشل أبدا في جعلك تصدق كل كلمة، وكل صمت، وكل نظرة، وكأن الشخصية هي شخص حقيقي يواجه العالم أمامك، متجردا من الأقنعة.

“كاميكاز” ليس مجرد فيلم بقدر ما هو مرآة تعكس الصراعات النفسية والاجتماعية لجيل ضائع، يعاني تحت وطأة واقع خانق. هو عمل يستدرج المشاهد إلى عمق العقل المضطرب، حيث لا حدود واضحة بين الواقع والخيال، وحيث تتحول الأحلام إلى كوابيس تطارد أصحابها بلا هوادة. إنه صرخة في وجه مجتمع يعيد تشكيل الأفراد وفق ضغوطه ومعاييره، لكنه يتركهم في نهاية المطاف بلا وجه ولا هوية، مجبرين على العيش في ظل الخوف والقلق. في هذا الفيلم، يجد كل فرد نفسه أمام مرآة الذات، محاصرا بأسئلة لا إجابة لها إلا في أعماق النفس المظلمة: إلى أي مدى يمكن للإنسان أن يتغير؟ وأي ثمن يدفعه عندما يفقد ذاته في خضم هذا التغيير؟