ضمن المسابقة الرسمية للأفلام الوثائقية الطويلة في الدورة الـ35 لأيام قرطاج السينمائية، يُقدم فيلم “فاليجا حمراء” رؤية حساسة وعميقة لتجربة المنفى والخوف من انتقال الإرث النفسي عبر الأجيال. يتابع الوثائقي رحلة ضياء، شاب تونسي يبلغ من العمر 29 عاما، يعيش في المنفى بفرنسا بعد مغادرته تونس عقب الثورة عام 2011. يتصارع ضياء مع قلق عميق، ليس فقط شمن أن يرث ابنه الصغير، إيليا، اضطرابه في النطق، بل أيضا الخوف من توريثه مشاعر اليأس والهزيمة التي يشعر بها تجاه وطنه الأم.
الثورة بين الأمل وخيبة الأمل
يعكس الفيلم تجربة جيل بأكمله من التونسيين الذين عاشوا التحولات السياسية والاجتماعية التي أعقبت ثورة 2011. ففي حين كانت الثورة بمثابة بارقة أمل، إلا أن واقع ما بعدها خيب الآمال. في أحد المشاهد، تصف أخت ضياء شعورها إبان الثورة بقولها: “كان عندي إحساس اللي حاجة عظيمة قاعدة تصير. أما طلعت غالطة.” هذه الكلمات تختصر الإحباط الجماعي الذي أصاب التونسيين بعد سنوات من عدم تحقق الأحلام المنشودة، بل وزيادة شعورهم بعدم الأمان، وهو شعور كان غريبًا على حقبة بن علي رغم الاستبداد السياسي.
الهجرة: حل جذري أم هروب؟
تطرح قضية الهجرة في الفيلم كخيار جذري يلجأ إليه الشباب التونسي للتخلص من قيود الوطن. تونس، في أعينهم، أصبحت “مقبرة للأحلام”، كما وصفها أحد الشخصيات. يُبرز الوثائقي هذا التناقض. إذ رغم مشاعر الاستياء من الوضع في البلاد، إلا أن الشخصيات لا تتوقف عن التعبير عن حبها للوطن. الأمثلة على ذلك متعددة، منها كلمات ضياء وأسرته التي توضح هذا الارتباط العاطفي العميق بالبلاد، حتى وهم يخططون لحياة مختلفة بعيدًا عنها.
التواصل بين الأجيال
لم يغفل المخرج عن التركيز على العلاقة بين الأجيال المختلفة، حيث يستعرض مخاوفه من أن يعيش ابنه إيليا المصير ذاته الذي عاشه هو وأبوه من قبله. هذه المخاوف تتجلى من خلال محاولاته المستمرة لتجاوز اضطرابه في النطق عبر جلسات العلاج النفسي واللغوي. ومع ذلك، يكشف الوثائقي أن هذه المخاوف أعمق من مجرد اضطراب في النطق، فهي مرتبطة بتجربة المنفى، فقدان الانتماء، والخوف من نقل إحساس بالهزيمة للأجيال القادمة.
ينتهي الفيلم بمشهد لحديقة برتقال، وهي رمز تعبيري قوي عن المقاومة والاستمرار. من خلال هذا المشهد، يقدم المخرج رسالة مفادها أن التونسيين، رغم هجرتهم، يحملون حبا عميقا لبلادهم، وسيظلون يعودون دائما ليعمروا الأرض ويعترفوا بقيمتها. أخيرا يمكن القول أن الفيلم يعتبر شهادة حية عن تجارب التونسيين بعد الثورة، عن حبهم لوطنهم رغم آلامهم، وعن التناقضات التي تعصف بمشاعرهم. يقدم الفيلم رؤية حساسة وعميقة لأسئلة الهوية، الأمل، والارتباط بالوطن، ويترك المشاهد متأملا في المعاني الأعمق للانتماء.