“الكابيتانة”:حين تعزف السينما سمفونية صمود المرأة التونسية

You are currently viewing “الكابيتانة”:حين تعزف السينما سمفونية صمود المرأة التونسية

“الكابيتانة”:حين تعزف السينما سمفونية صمود المرأة التونسية

كثير هم من يتناولون قضايا المرأة في الأفلام، لكن قليلا ما تجد من يستطيع النفاذ إلى جوهرها والتقاط لحظات حياتها الصادقة. بين سرديات النضال والمعاناة التي نراها تتكرر كثيرا على الشاشة، يبرز فيلم “الكابيتانة” للمخرج التونسي “حسام صانصا”، والذي عُرض في الدورة الـ12 من مهرجان وهران للفيلم العربي، ليكسر هذا النمط المألوف، مقدّما رؤية تتخطى العرض التقليدي، وتذهب نحو ما هو أعمق وأقرب إلى الحياة اليومية التي تعيشها النساء. إنه فيلم يلتقط ما وراء الصخب والفرح الظاهري، ويغوص في أعماق الهموم والخفايا التي تملأ قلوب البطلات.

نضال وحلم مشترك

اختار الفيلم الوثائقي “الكابيتانة” أن يروي قصة نادية، قائدة فرقة موسيقية نسائية في قابس. تتحرك بطلتنا بخطوات ثابتة نحو هدفها: شراء معدات صوتية جديدة لفرقتها، بهدف تحسين جودة عملها وزيادة شهرتها. هذا السعي الدؤوب لا يمثل مجرد حلم مادي، بل هو تمثيل أعمق لرغبتها في الاستقلالية والتحرر من القيود المادية والاجتماعية.

الفيلم يبرز نادية كشخصية تمتاز بالصبر والإصرار، وهي صفات متأصلة في العديد من النساء التونسيات اللواتي تحملن على عاتقهن مسؤوليات متعددة والتي لا تعرف اليأس. هي أم مطلقة تمكنت من تربية أطفالها وتحقيق التوازن بين حياتها العملية والشخصية. ورغم المسؤوليات المتراكمة، تظل نادية مبتسمة ومتفائلة، وهو ما يجعل الفيلم تكريما رمزيا لكل النساء التونسيات اللاتي يكافحن بصمت ويحققن الإنجازات في الظل.

عند متابعة الفيلم، لا تتوقع الكثير من التكلف أو الزخرفة السينمائية، بل سحره يكمن في بساطته.  تتصارع نادية وصديقاتها مع الزمن والظروف من أجل كسب رزقهن عبر إحياء الأفراح المحلية في ولاية قابس في الجنوب التونسي، في ظل أدوات بسيطة وكفاءة محدودة، ولكنهن يفعلن ذلك بشغف لا يتزعزع، حتى وإن كانت المعدات قديمة أو غير ملائمة، كما تقول نادية: “حتى يبدا الميكرو خايب نعطي ما عندي.”

يصور المخرج في هذا العمل عالم الفرحة الزائف، حيث تُجبر نادية ورفيقاتها على نشر السعادة في الأعراس والمناسبات، رغم أن داخلهن مثقل بالتعب والحزن. كما تقول صديقتها في واحدة من أكثر العبارات عمقا في الفيلم: “البراني لازمو يضحك، الدخلاني خليه في دارك”. إنهن بائعات السعادة في حفلات الزفاف والمناسبات، لكن وراء تلك الابتسامات الواسعة تكمن معاناة من نوع آخر، بين ضغوط الحياة اليومية ومسؤولياتهن العائلية.

بين الأصالة والروح التونسية

ما يميز “الكابيتانة” هو بساطته العميقة، حيث يتحول كل مشهد، وكل كلمة، إلى لوحة سينمائية تشهد على قدرة المخرج في التقاط لحظات الحياة الحقيقية دون حاجة إلى تزويق أو زيف. المنزل القابسي التقليدي، الضحكات العفوية، وتلك الابتسامات التي تشع بالنقاء، كلها تشكل خلفية مثالية لرحلة نساء تونسيات يرفضن الاستسلام أمام صعوبات الحياة.

وفي إطار تزاوج الأصالة والحداثة، يُدخل المخرج المشاهد في رحلة موسيقية لا تقتصر على الأغاني القابسية الشعبية، بل تتجاوزها لتشمل التراث التونسي الأوسع، وسط أجواء صاخبة من الاحتفال والبهجة. من خلال هذه الفرقة النسائية، يقدم “حسام صانصة” لمحة عن عالم مخفي من الأفراح التونسية، حيث تقتصر المناسبات الموسيقية على النساء فقط، فتتحول هذه الجلسات إلى فضاءات للفرح والاحتفال بعيدا عن أعين الرجال. في تلك اللحظات، يظهر كيف يمكن للفن والموسيقى أن يكونا وسيلة للتعبير عن الحياة بأسرها: الفرح والحزن، النجاح والإخفاق، الحلم والنضال.

إنها تلك الروح التي تجعل من هذا الفيلم أكثر من مجرد قصة فرقة موسيقية نسائية. هو تأمل عميق في الهوية التونسية المعاصرة، وتجسيد لروح المرأة التونسية الصبورة التي تواجه الحياة بشجاعة وتفاؤل.

“الكابيتانة” هو انعكاس للنضال اليومي الذي تخوضه النساء في تونس، بين مسؤولياتهن العائلية واحتياجاتهن المهنية. إنه رسالة حب وإصرار لكل من يعتقد أن المرأة هي فقط عنوان للضعف أو التبعية. “الكابيتانة” يجعلك تعيد التفكير في دور الفن، ليس فقط كوسيلة للتعبير، بل أيضا كأداة للنضال والصمود أمام أعباء الحياة.

عبير العقربي